الخوف من لاشيء

عبد السلام بنعبد العالي
Latest posts by عبد السلام بنعبد العالي (see all)

الخوف مفهوم ضبابي يتأرجح بين القلق والتهيّب والفزع على المستوى الفردي، وقد يبلغ حتى بث نوع من الذّعر على المستوى الجماعي. يتولّد الخوف عن كل تغيير يفاجئ الفرد في ما اعتاد عليه، إنه حالة التوجس التي تنجم عما قد يواجهه الفرد من غرابة نسبة إلى ما كان يتوقعه.

ومثل الانفعالات جميعها، فإن للخوف وظيفة، وهو يكشف عن مفارقة بين عناصر التجربة التي يخوضها الفرد، وما كان مفترضا أن يحصل، فهو بمثابة حلّ لمعضلة يتجاوز بها الفرد الغرابة التي يواجهها، وهو، ككل انفعال، يلعب دورا تحريضيا يرمي إلى القيام بوظيفة ذهنية تجنّد معرفة اجتماعية بهدف إعادة تأويل العالم، وتدبير ما ينطوي عليه الموقف من جدّة وغرابة. هذا على المستوى الفردي، أما على مستوى الجماعة، فإن أيّ مجتمع لا يمكنه أن يستغني عن توظيف الخوف في مسعاه لتدبير شؤونه، لما قد يحتاجه من وسائل لردع أفراده. ناهيك عن أنّ الأنظمة السياسية، كيفما كان شكلها، تكون محتاجة لردع مواطنيها عن طريق التّخويف، فتوظِّفه لتسويغ خطوات الحظر والتقييد والرقابة وتفعيل القوانين، الأمر الذي لا يمكن القبول به بغير استيلاء الخوف على الأفراد داخل كل مجتمع.

الخوف ككل انفعال، يلعب دورا تحريضيا يرمي إلى القيام بوظيفة ذهنية تجنّد معرفة اجتماعية بهدف إعادة تأويل العالم

يرتبط الخوف بموضوع معيّن يكون مثارَه. يحيل هذا الموضوع إلى ما يهدد الفرد أو إلى الخطر الذي هو سببه: يمكن للمرء أن يخاف شيئا أو أحدا، أو يخاف عليه، يمكن أن يخاف المرض، أو يخاف على صحته. غير أن موضوع الخوف لا يكون دوما واضحا يسير التّحديد، بل إنه غالبا ما يكون من التعقيد بحيث لا يمكن للفرد أن يحدّده، أو حتى أن يتبيّن مصدره. في هذا الإطار كان الفيلسوف الدانماركي سورين كييركغارد يتحدّث عن الخوف «من لاشيء». بما أن هذا الخوف لا يخاف موضوعا بعينه، فإنّه يتخذ شكل قلق وجودي. لم يكن أبو الوجودية يعني أنّ هذا الخوف خوف من غير موضوع، وإنّما كونه من القوة والكثافة واللاتحديد بحيث يغدو خوفا «كليا» لا يتمكن من أن «يتّهم» موضوعا بعينه. لعلّ هذا ما يقصده أيضا أولئك الذين يتحدّثون عن «الخوف من المجهول»، فهم من شدّة ما يخافون، لا يعود في استطاعتهم أن يضبطوا مصادر خوفهم. غالبا ما تتولد هذه الأشكال اللاّمحددة من الخوف عن انهيار أطر الفكر التي يكون الفرد قد تعوّد عليها، ويكون المجتمع قد استساغها، إلا أن تحوّلات جذرية، مثل الحروب أو الأزمات الصحية أو الاقتصادية قد تعصف بها على حين غفلة، فتنهار معها المرجعيات كلّها، ويغدو الفرد في انتظار الأسوأ، متوقعا انتشار كل الأوبئة وانهيار القيم جميعها، بل وحتى قرب النهاية التامة.

على مستوى الجماعة، فإن أيّ مجتمع لا يمكنه أن يستغني عن توظيف الخوف في مسعاه لتدبير شؤونه

حينئذ، لا يعود الفرد يطمئن لا على صحته، ولا على مستقبله، ولا على أهله، بل حتى على وجوده. لذا لا يتبقّى عليه إلا أن يحتمي من غير أن يستطيع أن يحدّد بالضبط ضدّ من يحتمي وممّن يخاف. لعل هذه هي وضعية الإنسان المعاصر الذي لا ينفك يتخوّف، سواء من تقلبات المناخ، أو تعاقب الأزمات المالية، وتكاثر الأمراض وانتشار الأوبئة، وتنامي أشكال الإرهاب، وندرة الماء والقائمة طويلة.. لذا فقد أصبحنا نلمس انتشار الاحتماء المفرط ضد خوف لا نتمكن من ضبط مصدره. يتجلى ذلك أننا نلمس مختلف أشكال الحماية، المادية والرمزية، كلما مررنا بمتجر أو حتى بباب مسكن. وقد ظهرت شركات معينة همها هو تجهيز أشكال الحماية هذه، وتوفير أنظمة المراقبة والإنذار من أجل ذلك، إلى حدّ أننا قد أصبحنا نرغب في الاحتماء من غير أن نعرف بالضبط ضد من وممن نخاف. كأن هذه الشركات تكرس انتشار «ثقافة الخوف» أكثر مما تعمل على حماية الأفراد. ما بالك حينما تنضاف إليها وسائل الاتصال بشتى أصنافها، فيتدخل الإعلام على الخط ليصنع المخاوف و«يتحدث عن أشكال من الخوف أكثر من تلك التي يعرفها الواقع ذاته» على حد تعبير إدغار موران، فيعمل على إشاعة ما يطلق عليه الفيلسوف الفرنسي «ثقافة الخوف التي تتلاعب بالخوف من الخوف».

هناك شركات تستثمر الخوف وتصنعه حتى أصبحنا نرغب في الاحتماء من غير أن نعرف بالضبط ضد من وممن نخاف

تزداد الأمور تفاقما حينما لا يجد المرء من يعوّل عليه لفهم ما يحدث. ويكفي أن نتذكر بهذا الصدد الخلافات الحادة التي ظهرت بين أطباء العالم فيما يتعلق بطبيعة فايروس كوفيد 19، ومدى فعالية بعض اللقاحات، ونجاعة الإجراءات التي اتخذتها بعض الدول. ولا يخفى ما ولّده تضارب التأويلات من حيرة زادت من خطورة الوباء، ومن تشكك الأفراد والدفع بهم إلى فقدان الثقة في السلطات الصحية، بل في الطب والعلم وبالتالي في أغلب المؤسسات التي كانوا يركنون إليها. ومما زاد الأمر استفحالا، تدخل الوسائط الجديدة بقدرتها الجبارة على خلق الشائعات، وعلى بثها في أصقاع العالم جميعها.

الخوف من كوفيد أطلق سباقًا  نحو إنتاج أمصال اللقاح مع ما صاحبه من تهويل للوباء

وربما لم نتأكد قط من الأهمية الكبرى التي يلعبها التهويل والتخويف في مجتمعاتنا المعاصرة بالقدر الذي تأكدنا منه عند انتشار الوباء في تلك الحقبة حيث تبيّنا أن قطاعات اقتصادية برمتها كان بإمكانها أن تتعرض إلى الانهيار إنْ انقشع الخوف وتبدّدت الرهبة. ويكفي أن نتذكر التسابق نحو إنتاج أمصال اللقاح مع ما صاحبه من تهويل للوباء وإقناع الافراد في أنحاء العالم أن الفايروس يتهدّدُهم داخل بيوتهم وغرفهم، وأنه قد يتقمص صورة الزميل والصديق والأخ والأم والابن…وأن عليهم أن يهابوا «الأشياء كلها».

المصدر: مجلة الجسرة الثقافية. العدد: 62

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى