الجسر روائيًّا.. والهزيمة التاريخية

قبل أن أعزم على الكتابة عن الجسر روائيًّا، عدت إلى كتاب الناقد السوري هايل الطالب (فضاءات الجسور في الرواية العربية – قراءة في المضمرات الدلالية والثقافية – 2019). ومن الروايات العربية التي تناولها: جسر بنات يعقوب لحسن حميد، حين تركنا الجسر لعبد الرحمن منيف، الزلزال للطاهر وطار، ذاكرة الجسد لأحلام مستغانمي، همس الجسور لعلي المعمري، الجسر لصهيب عنجريني، جسر الموت لباسم عبدو، الجسر الأزرق لصلاح مطر، جسر الشيطان لعبد الحميد جودة السحار، جسر الجميلات لحنان الدرقاوي، عناق عند جسر بروكلين: لعزّ الدين شكري فشير، جسر اللوا لداوود أبو شقرا. وهذه المدونة من سورية بخاصة، ومن مصر والجزائر وعُمان والمغرب، تنادي من الرواية العالمية: جسر على نهر درينا لإيفو أندريتش، جسر التنهدات لميشال زيفاكو، الجسر: إسماعيل كاداريه – جسر سان لويس راي: ثورنتن وايلدر، اجتياز الجسر: بيا بيترسن.

جسر التنهدات أشهر جسور البندقية في إيطاليا

إلى هذه المدونة الكبيرة، أضيف بدوري من الرواية العربية: جسر النهايات لمحمود طاهر، تحت جسر الهولندي لمحمود يعقوب، جسر النسيان لميرفت أمين، جسر عبدون لقاسم توفيق، جسر بضفة واحدة: هيا صالح، جسر على نهر الأردن: أسامة العيسة، فوق جسر الجمهورية: شهد الراوي، على الجسر بين الحياة والموت: عائشة بنت الشاطئ، ومسرحية جسر إلى الأبد لغسان كنفاني. ولئن كنت قد قرأت أغلب الروايات المذكورة، فقد أثارت الأشجان رواية (جسر على نهر درينا) إذ أعادتني إلى سنتي الجامعية الأولى (1963) عندما قرأت ترجمة سامي الدروبي (1921 – 1976) لهذه الرواية، والتي كانت قد صدرت في دمشق قبيل حصول إيفو أندريتش (1892 – 1975) على جائزة نوبل عام 1961.

أعادني الجندي يوسف الرطاسي في رواية (جسر على نهر الأردن) إلى هزيمة 1967

بعد قرابة ستين عامًا هو ذا الطفل محمد باشا سوكو لوفيتش يقضي طفولته في ظل الجسر، يرفل في نعمى حكايات جسر بلدته فيشغراد وأساطيره إلى أن يختطفه العثمانيون كجزء من الضريبة (الجزية) على المسيحيين، وفي غمضة عين يصير الطفلُ الصدرَ الأعظم في إسطنبول، ويصير الجسر الذي (لا مثيل لجماله) كتابًا تتماهى فيه القصة والتاريخ والفلسفة والشعر و.. حتى ليتساءل سامي الدروبي: هل هذا (كتاب) أم رواية ؟ بالنسبة لي سوف تسكنني هذه الرواية كما ستسكنني رواية أندريتش (وقائع مدينة ترافنك) والتي ترجمها الدروبي، ونشرتها دار دمشق عام 1964. وها هو المترجم الأردني إسماعيل أبو البندورة يترجم رواية أندريتش التي عَنْونها باسم أحد فروع نهر درينا (جسر على نهر جيبا وقصص أخرى).

لم تتأخر من بعد قراءتي لرواية (جسر التنهدات) لميشال زيفاكو (1860 – 1918)، وستورثني القراءة ثم السينما تنهدات السجناء وتنهدات العشاق، و(لطشة) البندقية بالسحر.
بعيدًا عن تلك الذكريات (المؤسِّسة) أعود إلى آخر ما قرأت من الروايات العربية المعاصرة التي شكّل (الجسر) عنوانها، وهي (جسر على نهر الأردن: تباريح جندي – 2018) لأسامة العيسة الذي فازت روايته (مجانين بيت لحم) بجائزة الشيخ زايد عام 2013، وهي من الروايات التي أسرتني، فلم يكن لي منها، من بعد، فكاك، على الرغم من أن ستين سنة من القراءة تجعل من العسير على رواية أن تأسرك.

الشاب القادم من قرية أرطاس المجاورة لبيت لحم ترميه الهزيمة شرقي نهر الأردن الذي تتعدد جسوره

أعادني الجندي يوسف الرطاسي في رواية (جسر على نهر الأردن) إلى هزيمة 1967، فهذا الشاب القادم من قرية أرطاس المجاورة لبيت لحم ترميه الهزيمة شرقي نهر الأردن الذي تتعدد جسوره: جسر الملك حسين (وهو جسر اللنبي)، جسر الملك عبد الله، جسر اليرموك (أو المجامع)، جسر بنات يعقوب الذي يُعَنْون روايةً لحسن حميد.

في العنوان الفرعي لرواية العيسة تلخص كلمة (تباريح) حياة يوسف؛ حيث الحرب التي لم تحصل، حيث الجنود الذين لم يعرفوا ولن يعرفوا كيف وقعت الحرب، فهؤلاء الجنود عاشوا الهزيمة، ولكن لم يعرفوا كيف هُزموا، ولأن دموع العالم كله لن تتمكن من (تطهيرنا) من نجس الهزيمة، كما يلهج يوسف، فالجسر هو: هزيمة أو نصر، لقاء أو فراق، حياة أو موت، هروب أو إقدام، خوف أو شجاعة، إقدام أو إدبار، مغامرة أو مؤامرة، اندفاع أو تقهقر، كرامة أو انخساف الذات.
بعد الحرب/ الهزيمة يسخر الراوي من النجاة: “لقد أصبحنا في أمان، ممّن؟ لا أحد يعرف ولا أحد يجيب، كل واحد من الجيش عليه أن يعيش هروبه لنفسه ووحده، ويجيب عن أسئلته الآنية، وتلك التي سترافقه إلى آخر العمر” (ص 6).
هو إذن جسر هزيمة 1967، ولكن من منظور 2018، أي بعد إحدى وخمسين سنة، فكيف كان هذا الجسر بعد تسع سنوات فقط من الهزيمة؟

في العنوان الفرعي لرواية العيسة تلخص كلمة (تباريح) حياة يوسف؛ حيث الحرب التي لم تحصل، حيث الجنود الذين لم يعرفوا، ولن يعرفوا كيف وقعت الحرب

في رواية عبد الرحمن منيف (حين تركنا الجسر) يأتي الجواب عام 1976. فقد كان بطلها زكي نداوي أيضًا جنديًّا في الحرب/ الهزيمة. وإذا كان يوسف الرطاسي قد غدا بعد الهزيمة فدائيًّا ثم سجينًا، فزكي نداوي صياد يدبّ مع كلبه وردان خلف البطة/ الملكة. وعبر ذلك تأتي الرواية في مونولوج طويل، لا يفتأ يتنقل بين حاضر الصيد وماضي الهزيمة والجسر، ولكن عبر لغة تجهد لكي تكون رامزة مرمزة، وكثيرًا ما تخفق عندما يأتي حديث جسر الهزيمة.
كل تجربة بعد الجسر مُرّة ولها طعم التراب: يقول زكي نداوي، ويخاطب نفسه: إذا أردت الطير بعد أن فقدت الجسر – أي بعد الهزيمة – فصوّبْ إلى الأمام، أبدًا إلى الأمام، ولو فعلت ذلك لعبرت الجسر.

في موقع أبكر، يفكر زكي بأن الجسر لا يزال ينتظر، وهو لا يتعب من الانتظار، وبأنه أقوى من الرجال وأذكى، ولا يغادر مكانه، أما الرجال فإنهم ينتهون حين يتركون الجسر.
تلك إشارة أولى إلى عتبة الرواية الأولى: العنوان. وفي إشارة تالية يفكر زكي في أنه ورفاقه الجنود أعطوا ظهورهم للعدو، وهكذا: “تركنا الجسر وحيدًا، وكان بصدره يواجه كل شيء” (ص 57). ويتأوه زكي ويتحسر على أنهم لم ينسفوا الجسر الذي أقاموه بأيديهم، لكن الواقعة وقعت فجأة، وجاءت الأوامر بترك كل شيء لينجوا بأرواحهم. وها هو زكي يسأل زميله حامد وهما هاربان: “لماذا تركنا الجسر؟ لماذا لم ننسفه؟”، وسوف يترجّع السؤال كل حين إلى أن يصير سؤال الهزيمة، ويتوسط الرواية، فيخاطب زكي كلبه أن الهزيمة تغرق في دمائنا، إننا نحب الهزيمة. وإذ يتساءل زكي عن سر هزيمة الإنسان، وما الذي يهزم، يتخيل الجسر مزهوًّا كطفل في العيد ويخاطبه: “أنت لا تهزم.. نحن الذين هزمناك، ونحن الذين هُزمنا” (ص 164). ويصور زكي نفسه أقرب الناس إلى تقمص روح الهزيمة، لأنه لا يستطيع أن يحاربها، وسيهدد بالانتقام من كل من قادونا إلى الهزيمة.
بنى الجسر سبعة رجال في أيام، بعيدًا عن المدينة التي لا تسميها الرواية، ولأنه بعيد لم يره أحد في المدينة، بينما هو في وحدته حزين، لكأنه يبكي، أمَّا الجنود التعساء الذين بنوه فقد بكوا ساعة ميلاده (؟)، لكنهم عندما تركوه أرادوا أن يبكوه فعجزوا، ولقد ركّب الأسطة رئيف الجسر من قطع الحديد، وزكي يجزم بأنه جسر لا يُفَكّ أبدًا، فما يمكن فقط هو أن يُنسَف، أن يُقتل. ويتذكر زكي ليلة سمّى الجسر (الحصان)، ويتذكر الشهر الأعمى المليء باللزوجة والريح المغبَّرة، والأيام السوداء من الشهر الأعمى، عندما جلجلت أوامر القادة: “لا تتركوا الخنادق.. اربضوا كالحجارة، وعندما تتلقون الإشارة يجب أن تكونوا جاهزين لنقل الجسر ونصبه فوق النهر” (ص 147).

من (دغل الماضي) تتدفق الذكريات، ومنها الكلمات الكبيرة التي لها طعم التراب الموحل: البطولة، المجد، القادة.. لذلك يهتف زكي بقتل جميع الكلمات الكبيرة والأفكار المصابة بالجرب، فهي التي تسببت بالهزيمة، وفي هتاف زكي أن الكبار هم الذين يخلقون الهزائم، والصغار هم الذين يموتون.

الجسر المصري على نهر الرقاد في الجولان السوري

“تقدم راغب نحو الجسر المصري وعمر لا ينبس، كان الوادي أشد عكرًا وأقوى هديرًا، كان ما يتدحرج في جوفه صخورًا، لا حصى ولا أحجارًا. تسمّر راغب فوق القنطرة يرقب الدوامات التي تلفّ دعائم الجسر، فيما نأى عمر، رمى راغب بنفسه أسفل وتركها تدوّم حتى تتلف أو تنضج”.

من رواية نبيل سليمان
مدارات الشرق – الجزء الثاني: بنات نعش

 

يرمي زكي نفسه ووردان والبطة الملكية بالشتائم، فهو الهش اليائس الأبله في ثياب متسول، المخصي الحيوان الذي بلا ذاكرة، الإنسان المسكون بالظلمة الذي يعوي كل ما فيه بالخيبة، ووردان هو ابن الزانية الأجرب الدودة الرخوة، كلب الخيبات والجسور المهزومة وزقّ العهر المتحرك، أما البطة فهي الجنية الزانية ابنة الزنا آكلة القلوب القديسة وراية الهزيمة التي تشبه وحدها الحقيقة، إنها ملكة الزمان الماضي “ليست طيرًا.. إنها شيء خارق.. عنقاء هذا الزمان” (ص 211). غير أن هذه العنقاء المرتجاة المستحيلة التي سيتمكن زكي من اصطيادها في نهاية الرواية، سيراها كائنًا قبيحًا، وسيرى أن هذا الظفر لا يساوي خسارة الجسر. وإذ يعود زكي من رحلة الصيد التي استغرقت الرواية، ويتهشّم رأس وردان على صخرة، يحاول زكي أن يحدّث الناس عن الجسر، فيزورّ عنه رهط، ويحذره صوت من الحديث، ويقول زميل له من زمن الجسر إن بناء الجسور ممكن دائمًا، لكن الصعب هو بناء إنسان جديد، فيعقب زكي: إنسان لا يترك الجسر، وكأنما أراد الكاتب بعد كل هذا الحشد المتفجر يأسًا وسخطًا أن يختم الرواية ببصيص أمل، فاندفع زكي في زحام البشر، وتأكد أن جميع الرجال – وليس النساء – الحزانى، يعرفون شيئًا كثيرًا عن الجسر، وأنهم ينتظرون ليفعلوا شيئًا.
ذاك هو جسر عبد الرحمن منيف في رواية أحسبها في درجة أدنى بين رواياته، وقبل هذا الجسر كان جسر أسامة العيسة في رواية أحسبها في درجة أدنى من روايته (مجانين بيت لحم)، وعلى الرغم من أن الجسرين ينتسبان إلى هزيمة 1967، إلا أن نسبهما الفني واهٍ، ومهما يكن من أمرهما ومن أمر جسور الروايات الأخرى التي قرأتها، يبدو أنني سأظل مسكونًا بجسر إيفو أندريتش على نهر درينا.

مجلة «الجسرة الثقافية» – العدد (61)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى