رسالة حب إلى شفيقة بنت علي نصور

حبيبتي شفيقة

لأول مرة أجرؤ على مخاطبتك باسمك عاريًا. ولأول مرة سأعترف لك بأنني ما عشقت شفيقة خضر إلا لأنها تحمل اسمك. لا تقولي: نسيتها، حتى لو أن ثلاثًا وستين سنة تفصلنا عن تلك العصارى الخريفية التي كنا نتسلل فيها، أنت وأنا، من البيت حتى لا يلحق بنا أحد من إخوتي.

كنتِ لهفى دومًا على هذه المدينة التي نزلنا فيها أخيرًا، نرى البحر ملء العين لأول مرة، تملئين حفنتي يديك من زرقة مائه وبياض زبده ونثار ملوحته، ترمقين الجزيرة التي يزنّرها البحر: هذه أرواد، والمدينة: طرطوس، وأنا أكبر لهفةً ولكن على ذلك البيت اللاطي خلف المستشفى، والضائع في كرم الزيتون، بيت شفيقة، هي في الرابعة عشرة، وأنا أيضًا، وأنت.

كنتِ لهفى دومًا على هذه المدينة التي نزلنا فيها أخيرًا، نرى البحر ملء العين لأول مرة، تملئين حفنتي يديك من زرقة مائه وبياض زبده ونثار ملوحته

أنا عندما كنت في عمرها تزوجت: تقولين. وأسألك: لماذا يضربون المثل ببنت الأربعتعش؟ عندما تكبر ستعرف: تقولين. ويمور صدري: لكنني كبير، زغب سالفيّ كزغب شاربيّ يغالب فيهما السوادُ الشقرة. كفّي تعرق كلما حضنتْ كفَّ شفيقة. شفةُ شفيقة السفلى لمياء مثل شفتك، عيناها تبرقان عسلًا مثل عينيك، وبعد سنة أو سنتين سيمتلئ صدرها ليصير مثل صدرك. عندئذٍ سأتلصص على صدرها كما أتلصص على صدرك وأنت تُرضعين اتحاد، حتى إذا قبضتْ عليًّ نظرة منك اندفعتُ أشرح لك للمرة العاشرة أو العشرين لماذا اختار أبي لاتحاد اسمها: تيمّنًا بالوحدة السورية المصرية وقيام الجمهورية العربية المتحدة، وكرمى لك يا جمال يا حبيب الملايين، وأنت لا تحبين غناء عبد الحليم حافظ، وتتعجبين ما الذي يعلقني بأغنياته، ويلوم صمتك كنظراتك شفيقة التي تحب عبد الحليم حافظ شخصيًا، وليس غناءه فقط، فأخاف أن يسرقها مني، لذلك سأكتب لها الرسالة اليتيمة بعد سنوات، في يومي الأخير في اللاذقية. وها أنا أعترف لك لأول مرة بالسبب الحقيقي للقطيعة التي انتهينا إليها، لا أقصد شفيقة وأنا فقط، ولا أنا وأخوها يوسف صديقي الأول والأكبر في طرطوس، بل القطيعة بينك أنت أيضًا وأم شفيقة.

شفيقة علي نصور

حبيبتي ونور عيوني: كتبت لشفيقة أنني أحبها، وأنني أغار عليها من العندليب الأسود، وبين سطر وسطر حشرت كلمات من أغنيات: أسير الحبايب يا قلبي يا دايب، نار يا حبيبي نار، بحلمْ بيكْ يا حبيبي أنا، يللّي مليت أيامي هنا.. وطارت الرسالة من صندوق البريد مقابل الثانوية الصناعية باللاذقية إلى مديرة ثانوية البنات في طرطوس، وتعالي يا قليلة الأدب يا عديمة التربية يا قزمة، طولك شبر وعشقانة؟ تعالْ يا أبو شفيقة خذ بنتك الفلتانة، وإذا ما عرفت تربّيها خلّيها بحضنك وانسوا المدرسة. وأنا يا حبيبتي طرت عصر الخميس من اللاذقية إلى طرطوس، وبدلًا من أمام بيتنا حطّيت أمام بيت شفيقة. لاقاني أخو شفيقة بالكف والبوكس، ولاقتني أم شفيقة بشتمك أنت يا ست شفيقة، ولمحت شفيقة تتلصص من تحت شجرة التين التي كانت قد التقطت لي صورة تحتها، بعدما حلقت شعري نمرة زيرو. والآن أقول لك يا حبيبتي إنني أرسلت هذه الصورة إلى كاتب مصري، صديقي، مع ما كنت كتبت له من ذكريات عن تلك الأيام التائهة بين الطفولة والمراهقة، لينشرها في المجلة التي يعمل فيها: هي أخبار الأدب، وهو عزت القمحاوي، وأنا أحمل المجلة إليك، وأنت تغصين بالحنين إلى تلك الأيام، وتسألينني عن أخبار شفيقة، فأغص: تزوجت من واحد من زملاء تلك الأيام، وهو الآن ضابط، عقيد، وتهمسين: أنت لا زلت تحبها. وتسألين: لماذا ارتجف صوتك وأنت تذكرها؟

حبيبتي دعيني من ذلك الماضي ومن كل ماضٍ. دعيني ألبد في حضنك الآن مثلما كنت أفعل كلما التقينا بعد فراق، وما من فراق طال مثله هذه المرة. خمس سنوات عبرتُ خلالها عشرات المرات قرب مقامك الجديد، دون أن أوقف السيارة وأقطع الخطوات الأربعين التي عليَّ أن أخطوها كي أرتمي بين ذراعيك. لماذا هذا الجفاء أو العقوق أو النكران؟

خمس سنوات عبرتُ خلالها عشرات المرات قرب مقامك الجديد، دون أن أوقف السيارة وأقطع الخطوات الأربعين التي عليَّ أن أخطوها كي أرتمي بين ذراعيك

هو السؤال نفسه ظل يصفعني منذ غافلك بدر عبد الهادي ومضى إلى مقامه الجديد، فجفَّ ماء عينيك، وحبست شفتاك صوتك، ولبدتِ في حضني. صرت أمك وأنت بنتي الأرملة. وقبل أن نحتفل بأربعينية المرحوم وسوس لي الوسواس الخناس أنك ما عدت حزينة، أو أن حزنك – على الأقل – ما عاد صافيًا، فأنت الآن حرة، ما من زوج ولا ضرّة، ما عادت نصرة زوجة جديدة أو ثانية، ما عادت شفيقة زوجة عتيقة أو أولى، شفيقة ليست أرملة ولا مطلقة، شفيقة عازبة في الستين تدندن خلف فيروز: أنا لحبيبي وحبيبي إلي، وأنا أدندن خلفك: أنا لشفيقة وشفيقة إلي، فلماذا هذا الجفاء أو العقوق أو النكران خمس سنوات؟

حبيبتي يا ست الكل:

أنت الآن بنت الأربعتعش، نحيلة، قصيرة، جلد وعظم كما وصفتِ لي من كنتِ وأنتِ تحكين حكاية شفيقة بنت علي نصور التي زوّجها أبوها للشاب الدركي بدر ابن الشيخ عبد الهادي:”لولا أن أمّك دعت لكِ بليلة القدر لما كان لك هذا النصيب، وأمك تبكي وأنت تبكين، ولا تنشف لك دمعة حتى يبكي الوليد في حضنك: يا ألله! شفيقة صارت أمًا في السادسة عشرة، وكرمى لها سوف يغني وديع الصافي: يا ستعشر سنة، يا عمر الولدنة، يا من يرجّعني زغيرة وياخد مالك يا دني، وأرجع أكبر عالهدا.

سبعون سنة وأنت تحكين لي حكاية شفيقة. الآن جاء دوري. الآن أنا من سوف يحكي لك حكاية شفيقة، ولكن لأيام ربما، لشهور، لما تبقى لي من الزمن، طال أم قصر، فسمّي باسم الله، وصّلي على المصطفى حبيب الله، واسمعي ماذا أقول وعمر السامعين يطول:

كان يا ما كان، وغير الله ما كان، كانت شفيقة بنت علي نصور قمر زمانها، وجه مدوّر وأسمر، والقمر كرمى لها بدّل بياضه، وجدايل شفيقة سوداء مثل ليالي كانون تلعب على ميدان ظهرها وخصرها. ولما طوت ثلاثين سنة كانت قد أنجبت ولدين وثلاث بنات، لذلك – ستقول لها أمها – لعبت عين الدركي بدر ابن الشيخ عبد الهادي على غيرها. وفي الليلة المقمرة التي خان القمر فيها شفيقة وأبهر العيون ببياضه، أمر الشيخ عبد الهادي شفيقة أن تلحق به، على يمينها بكرها وعلى يسارها الولد الثاني، إلى البيت الذي سبقكم بدر إليه، وأنت سوف تخطبين له هذه الصبية بنت الستعشر سنة التي غنّى لها وديع الصافي، وليس لك.

حبيبتي يا ست الكل: أنت الآن بنت الأربعتعش، نحيلة، قصيرة، جلد وعظم كما وصفتِ لي من كنتِ وأنتِ تحكين حكاية شفيقة بنت علي نصور التي زوّجها أبوها للشاب الدركي

اسم الصبية نصرة، والضرّة مرّة يا شفيقة، وما بقي لك إلا هذا البطن: للدركي منه كل سنة ولد، ونصرة تخسر السباق فترمي في حضن الدركي بنتًا كل سنتين. وفجأة صار لشفيقة ستة صبيان وخمس بنات قبل أن تسمع بحبوب منع الحمل. لكنك أنت أيضًا ستخسرين السباق عندما قصصتِ جدايلك، وسلّمتِ شعرك للكوافيرة كي تكويه وتجعده، لماذا؟ لأن نصرة سبقتك إلى الموضة التي سئمت الشعر الحرير على الخدود يهفهف ويرجع يطير، كما كنت أغني لك بينما أصابعي تتوه في شعرك، مقلدًا عبد الحليم حافظ: هو أنا وأنت مريم فخر الدين، بل لبنى عبد العزيز، بل نادية لطفي، بل أجمل نساء الدنيا، سواء كنت في الرابعة عشرة أم في الرابعة وثمانين، تتركين لي أن أقرر ما إذا كانوا سيتأصلون الكتلة المتسرطنة التي صارت مثل حبة المشمش أسفل ذقنك يا حبيبتي.

طبيب ينصح بالاستئصال فورًا، وطبيب يحذر من تفشّي السرطان، وأنا من أنا لأقرر، وأنت تعودين يومًا بعد يوم كما كنت في الرابعة عشرة: نحيلة، وقصيرة، جلد وعظم، لكن الابتسامة لا تغادرك، وذكرياتك السعيدة تهمي، كأنك لم تعرفي القهر يومًا ولم تحزني أو تبكي أو تسهدي أو تتوجعي.

فجأة – وما أكثر وما أحلى ما صرت تفاجئيني به منذ صارت الكتلة مثل التفاحة – سألت عن اسم السينما التي اصطحبتك إليها لأول وآخر مرة: سينما اللاذقية يا ست شفيقة. واسم الفيلم؟ المرأة المجهولة، بطولة شادية التي أبكتك وهي تغني: سيد الحبايب يا ضنايا إنت. إي والله هذه هي الأغنية: تهمسين، وأسمعك تدندنين: وكل أملي ومناي إنت/ يا أحلى غنوة/ في دنيا حلوة/ غنتْ وقالت معايا إنت/ سيد الحبايب يا ضنايا إنت.

وفجأة تسألين عن أصدقائي الذين اختفوا منذ سنوات، وذكرياتك السعيدة تهمي: صنعو المصري: تقولين فأعاجلك: صنع الله يا ست شفيقة. صنع الله إبراهيم اليوم من أكبر الكُتّاب. تصرّين: صنعو، وتدعين له بالتوفيق. ومحمد ملص لا زال يغسل بنطاله من أثر العسكرية، وإلى أن يجفّ يلبس بنطال بدر الذي ما عاد دركيًا، وتلك القردة التي كان يجنّ جنونها كلما صاح المذيع جووووول، ما كان اسمها؟ نائلة الأطرش يا ست شفيقة، نائلة مخرجة وممثلة صارت بأميركا، ومحمد ملص اليوم من أكبر المخرجين، وأنت تصلّين على النبي وتدعين بالتوفيق لمن نسيتِ ولمن تذكرين.

كانت شفيقة بنت علي نصور قمر زمانها، وجه مدوّر وأسمر، والقمر كرمى لها بدّل بياضه

وفجأة يصعب النطق عليك مثل البلع، والطبيب الذي نصح باستئصال الكتلة كالطبيب الذي حذر من الاستئصال، ينذران: ستخنقها الكتلة. وأنت تبتسمين وتحشرجين: احك لي حكاية، فأسمّي باسم الله، وأصلي على الحبيب المصطفى، وكان يا ما كان، وغير الله ما كان، وكان فيه كاتب اسمه مكسيم غوركي، وله رواية اسمها (الأم)، وكان فيه كاتب اسمه غسان كنفاني، وله رواية اسمها أم سعد، وكان فيه كاتبة اسمها بيرل باك، ولها رواية اسمها (الأم) أيضًا، وكان فيه كاتب اسمه برتولت بريخت، وله مسرحية اسمها (الأم الشجاعة)، وكان فيه كاتب اسمه بودلير وكتب من أجلك يا ست شفيقة: يا أم الذكريات، يا سيدة السيدات، يا أنت، وكان فيه كاتبة اسمها إيزابيل الليندي، ولها رواية اسمها (باولا) على اسم ابنتها التي صارعت المرض مثلك، وماتت مثلما…

*  *  *

افتتح ألبير كامو روايته (الغريب) بهذه العبارة: اليوم ماتت أمي، أو ربما البارحة، لا أدري.

يقال: كان ميرسو، بطل الرواية وصاحب تلك العبارة، باردًا أو لا مباليًا أو حياديًا، لذلك قال ما قال. أما أنا فأردد عبارته لأنني على يقين بأن حبيبتي شفيقة بنت علي نصور لا تموت.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 60

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى