هل الخوف هو الخيال؟

أخيراً خلا البيت لي. سميعة – زوجتي الشرعية الوحيدة – أسرعتْ إلى غرفتها، ما إن غادرنا آخر الأصدقاء، وتركتني مع شقيقيّ عبد الحليم ووائل، اللذين راحا يحوصان إلى أن بقّ وائل -وهو أصغرنا- البحصة، وتساءل عما إذا كان يمكنهما العودة كلٌّ إلى بيته. كانا يسكنان في حيّ الجبيبات من مدينة جبلة، على بعد 25 كم من مقامي في اللاذقية. كانا قد لازماني ليل نهار منذ ضحى ذلك الليل الأغرّ، الأبلج.

أمرتُ التلفزيون: هيّا. وما إن لبّى حتى أخرسته وتهاديت إلى الفراندة. أرجفتني برودة ليل شباط (فبراير) التي كأنما تنتقم من دفء شمس نهاره. هممتُ بالرجوع لكن هذا الشبح الذي يدبّ قرب سور الحديقة من الداخل، أوقفني. غمر نور الكهرباء الأصفر -لماذا ليس حليبياً؟ – الشبح وهو يرشقني بنظراته، وأنا أراه ولا أراه. ماذا تفعل هنا يا ابن الـ….. يا بن من؟ مشوار منتصف الليل هذا أم…؟

إنه يراقبك. إنهم يراقبونك ليل نهار: أجبت، وتراجعت مقشعرّاً، وجفّ حلقي. عدت إلى الصالون، تشربت نور الكهرباء الحليبي. أغلقت الأباجور الخشبي على باب الصالون. زحفت خطواتي إلى غرفتي. ليبقَ الصالون مضاءً. أغلقت الأباجور على باب ونافذة الغرفة. لن يقاسمني الغرفة أحد الليلة، لا عبد الحليم ولا وائل. أسلمت نفسي للعتمة. تمرغت في الفراش أتنعّم بالعتمة، لكن ضوءاً شاحباً تسلّل خلل الأباجور وراح يصفّر. هذا هو الضوء الذي غمر الشبح في الحديقة نفسه، ومن يراقبني في الحديقة هو الآن في شرفة غرفتي. كم خطوة بيننا؟ هل سيمكنه أن يتسلل خلل الأباجور ويسقط عليّ من كبد السماء. لا سقف للغرفة يحميني. إنه يطبق على صدري. لا لا. هذان ليسا كفّين يكتمان أنفاسي. هذه أكفّ، وكل كف مخباط.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

إنه يراقبك. إنهم يراقبونك ليل نهار: أجبت، وتراجعت مقشعرّاً، وجفّ حلقي. عدت إلى الصالون، تشربت نور الكهرباء الحليبي

أنا من وصفني بـ (دبّة نوم)، أي: دابّة نوم. كنت مضرب مثل ما إن يسترخي رأسي على وسادة حتى أغفو. قد أكون في ضائقة مادية قد تفاقمت، قد يكون تهديد قد بلغني بسبب رواية نشرتها في مصر، أو مقالة نشرتا في بيروت، أو لأنني وقّعت على بيان ضد السلطة، لذلك يؤخّر القلق غفوتي دقائق. لكنني الليلة لا أغفو، لا أتثاءب، لا نعاس، ليس إلا التقلب من جنب إلى جنب. ليس إلا التحديق في الباب المغلق، النافذة المغلقة، وماذا بعد؟ هل يكون ذلك الذي يسير بموازاة سور الحديقة الحديدي من شرقها إلى غربها، لا يزال يراقب المنزل؟

في مساء هذا اليوم الخامس لخروجي من المستشفى، أي بعد سبعة أيام من ذلك الليل الأغرّ الأبلج، ها هو نائب رئيس فرع الأمن السياسي يملأ الصالون مصحوباً بصديقي الدكتور ع . س.

عانقني الضابط الذي يرفل بثياب مدنية، وهنّأني بالسلامة، ولعن أسلاف من اعتدوا على أديبنا الكبير، وقال بتهذيب حازم: من أجل الندوة القادمة التي ستقيمها في بيتك، تقتضي التعليمات الجديدة أن تعلمنا قبل خمسة عشر يوماً بالموعد والمكان والموضوع وبأسماء من سيحضرون ومن سيتكلمون. قلت بتهذيب حازم: لن تكون ندوة قادمة. يكفيني ما نالني هذه المرة. قال وقلت وقال وقلت مشيراً إلى الفراندة: تفضل وانظر إلى هذا الذي يراقب منزلي ليل نهار. الساعة الآن الثامنة. منذ متى غابت شمس شباط؟ هو الآن يحمل بين كفيه كتاباً ويقرأ في ذهابه وإيابه من شرق سور الحديقة إلى غربه. ثمة لمبة واحدة صفراء شحيحة. أغلب مشواره معتم وهو لا يرفع عينيه عن الكتاب إلا إلى الفراندة. ضحك الضابط وأقسم أن هذا المراقب ليس من فرعنا. لماذا نسيت كل ذلك؟ إذا كان صادقاً فثمة فرع أمني آخر إذن يراقب البيت. أعوذ بالله. تذكرت نصيحة الصديق الكاتب والمترجم ث . د عندما أخذت نفسي تسوّل لي بإقامة ندوة في منزلي: مالك ولهذا يا عمّاه؟ أنت في اللاذقية ولست في دمشق. للاذقية خصوصيتها أم ماذا؟ وأنت لا تشتغل في السياسة إلا بصفتك كاتباً. لكنني لم أصغ للنصيحة.

المنتديات والندوات منذ شهور تتكاثر وتطلق لغة جديدة في سوريا: نداء بالإصلاح، إلغاء حالة الطوارئ والأحكام العرفية، تبييض المعتقلات، والفساد، أعوذ بالله من الفساد. وبين من حضروا رفاق، أي – بالعربي الفصيح – أعضاء في حزب البعث الحاكم. بينهم أعضاء في اتحاد الكتاب ومنهم مخبرون، وبينهم مستقلون ومعارضون، ومن قضوا سنوات في المعتقلات و…. وكل ذلك كان في الخامس عشر من كانون الثاني يناير 2001، وفي فجر ذلك الليل الأغر الأبلج الأول من شباط فبراير وقعت الواقعة التي أورثتني كل هذه القطب في رأسي، ويومين في العناية المركزة في مشفى الصوفي و…

وزيارة مئات للمشفى يستنكرون الاعتداء ويشدون على يديك، حتى إذا عدتَ إلى البيت صارت المئات آلافاً خلال خمسة أيام، وها أنت بعد سبعة أيام من الاعتداء الأغرّ الأبلج تستعيد أصوات من ملأوا وملأن البيت أفواجاً قادمين من القامشلي إلى دمشق، وعبد الحليم ووائل وسميعة يقدمون القهوة للضيوف، وإيناس ابنتك تنقل إليك ما تتابعه من الحملة الإعلامية المستنكرة للاعتداء والمتضامنة معك في سوريا وخارج سوريا، والنوم، أين هو النوم يا دبّة النوم؟

عانقني الضابط الذي يرفل بثياب مدنية، وهنّأني بالسلامة، ولعن أسلاف من اعتدوا على أديبنا الكبير

على الحبل المشدود فوق هاوية كنت عندما صدح المؤذن. ترنّحت لكنني لم أسقط، بل سقط فؤادي. عدت إلى الفراش وحبست أنفاسي حتى انتهى المؤذن. بدأت ألهج بلفظة الخوف. عليّ أن ألفظها مائة وأربع وعشرين مرة كي أبرأ من الخوف. أين قرأت هذه الوصفة الطبية المجربة؟ ضاع مني العدّ. شقّت ضحكتي الباب المغلق والنافذة المغلقة سخريةً من إيماني ومن علمانيتي. سميت باسم الله الرحمن الرحيم وأخذت أتمتم بشفتين مطبقتين: ولنبلونّكم بشيء من الخوف. إني أخاف رب العالمين. فمن اتّبع هداي فلا خوف عليهم: فإذا جاءهم الخوف رأيتهم ينظرون إليك، تدور أعينهم كالذي يُغشى عليه من الموت. فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحةً على الخير. هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً. صدق الله العظيم.

قفزت من السرير إلى المكتبة الصغيرة المقابلة. تناولت تذكرة القرطبي ممتناً لانحشارها هنا، بعيداً عن رفوف كتب الدين الشعبي – هكذا سميتها – في مكتبتي الكبرى في القرية. أسرع إليّ من التذكرة الدعاء: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدلٌ فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسمٍ هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع… ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي. ضاعت مني كلمة فتضاعف خوفي. لا. هذه ليست تذكرة القرطبي، وهذا ليس أنا، ولا بد أن الليل قد تبدد، ولا بدّ أن هذا الذي يتسلّل حيّياً خلل الأباجور هو واحد من أشعة شمس الصباح. الآن يمكنني أن أنام قرير العين، لا خوفٌ ولا وجل.

قال بتهذيب حازم: من أجل الندوة القادمة التي ستقيمها في بيتك، تقتضي التعليمات الجديدة أن تعلمنا قبل خمسة عشر يوماً بالموعد والمكان والموضوع وبأسماء من سيحضرون

الله وحده يعلم كيف انطوى النهار، وكيف انطوى من الليل ما انطوى قبل أن أندس في الفراش خائفاً من أن يجفوني النوم، كما في البارحة، حتى الشروق.

بالطبع تفقدت شبح الحديقة، وهذه المرة لم أخف منه، بل ناديت سميعة ووقفنا دقيقة بطولها نسترق منه نظرات العيون الذابلة، ونكتم ضحكتنا الساخرة. المكلف بالمراقبة في الأفلام المصرية يتلصص من خلف جريدة. هذا الشبح مصرّ على أن يقرأ في كتاب.

بالطبع أحكمت إغلاق الأباجور على النافذة وعلى الباب، ورحت أعدد معجباً بثراء لغتنا: الرهبة، الفزع، الرعب، الهلع، يا جبان، يا رعديد، الخوف، الخوف، الخوف، أعوذ بالله.

عندما تركتني سميعة وحيداً – هي تنام مبكراً – لجأت إلى الراديو، ونادراً ما كنت أفعل. لاقتني فيروز بالأغنية التي أبدعتها منذ سنة هي كما أبدعها ابنها زياد ملحناً، وكما أبدعها جوزيف حرب شعراً: حبيتك تنسيت النوم، يا خوفي تنساني/ حابسني برات النوم وتاركني سهراني. لعنت الخوف وأمه. تابعت فيروز: يا خوفي ابقى حبك، بالأيام اللي جاي، وأتهرّب من نسيانك، ما اتطلّع بمرايي. لعنت الخوف وذرّيته. الآن أحاول أن أدندن بالأغنية الأثيرة. استعصت عليّ الأغنية. لبدت أنتظر النوم. داهمني صوت فايزة أحمد كأنما تتضرّع: خاف الله، ارحمني ما تظلمنيش، خاف الله، ريّحني ما تتعبنيش، خاف الله يوم ما تغيب وتسيبني ولا تقوليش، خاف من يوم تلاقيني وياك ومش وياك، خاف من يوم ينسى عمري اللي عشته معاك. قاطعت فايزة أحمد وناشدتها: يكفي من هذه الأغنية. هل ستكون هذه الليلة كالليلة السابقة؟

أطبق عليّ صمت ثقيل، خروس هو، عطالة هي، وكل ذلك طال واستطال، وفجأة رأيتهما يطيران نحوي حتى أدركاني في مدخل العمارة، الأكفّ تخبط على رأسي، لكماتهما تخترق صدري، لبطاتهما توقعني وأنا أتفرج، لا، لم أتألم حتى غرسا أسنان البونيه في رأسي يا رب.

تقلبت في السرير مرة بعد مرة، وفي كل مرة كان صوت يفنخ فيّ: الخوف لا يمنع الموت، الخوف يمنع الحياة، الخوف يجعل الحمار أسرع من الحصان، اللي أنت خايف منه هلبتُّ عليه. كان الصوت لامرأة مرة، لكأنه صوت أمي، وكان لرجل مرة، كأنه صوت جدي. استسلمت. لا أغفو، لا أتثاءب، لا نعاس، لا نوم. الليلة كالبارحة. لماذا تكذب على نفسك؟ خائف؟ نعم خائف، والأصوات تشتبك، تسحج: يا خوفي بعده لا يطوّل، وقلبو عنّي يتحوّل، خايف أقول اللي ف قلبي، تتقل وتعاند ويّاي، بخاف عليك، وبخاف تنساني، ومثل العرائس تراقصت على السقف أخيلة فريد الأطرش وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفيروز وفايزة أحمد، وفجأة، اختفت العرائس وتشقق السقف عن الشابين اللذين تفرّجت على أكفهما وقبضاتهما تتقاذفني، وكنت سأظلّ أتفرج صامتاً لولا ما غرسا في رأسي. الدم. الدم يا رب.

بدأت ألهج بلفظة الخوف. عليّ أن ألفظها مائة وأربع وعشرين مرة كي أبرأ من الخوف. أين قرأت هذه الوصفة الطبية المجربة؟

نهاراً شكوت أرقي لصديقي الدكتور ع . س. هو متخصص بالأمراض العصبية النفسية. أنا لا أنام يا دكتور. قال وقال وأحضر لي حبوباً، ولما افترقنا هاتفت أخي عبد الحليم: أرجوك احضر فوراً. ولما حضر رجوته أن يركّب لكل باب ولكل نافذة ولكل أباجور قفلاً / درباساً. سخرت سميعة من رجائي. الذي لبّاه عبد الحليم. انتظرت منتصف الليل مشوقاً.

المصدر: مجلة الجسرة الثقافة. العدد: 62 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى