اللغز الأكبر في أفلام الرعب

صناعة الكوابيس- الأحلام سابقا:

عصام زكريا

“هوليوود تراهن على الخوف”.. هكذا يقول عنوان التحقيق الذي نشرته صحيفة Wall Street Journal في عددها الصادر بتاريخ 25 مارس 2023.

حسب الصحيفة، تشهد صناعة السينما الأميركية ازدهارًا هائلًا في إنتاج أفلام الرعب، أحصت الصحيفة منها 29 فيلمًا يبدأ عرضها خلال الفترة من إبريل إلى ديسمبر2023، عدا الأفلام التي صدرت منذ بداية العام.

ليس جديدًا أن تراهن هوليوود على الخوف، فأفلام الرعب تشكل نسبة معتبرة من إنتاج السينما الأميركية منذ نشأتها، ولكن اللافت الذي تشير إليه الصحيفة هو الزيادة الهائلة في عدد الأفلام التي يجري إنتاجها وحجم الاستثمارات فيها، وشروع كبرى الشركات، مثل “بارامونت” و”وارنر” و”يونيفرسال”، التي اعتادت كل منها على إنتاج فيلم أو اثنين من نوع الرعب سنويًّا، في إنتاج عدد قد يصل إلى عشرة أفلام خلال هذا العام والأعوام القليلة القادمة.

ازدهار مدهش

تتجه هوليوود إلى أفلام الرعب لأنها تلاحظ الإقبال الشديد عليها من قبل جمهور السينما الحالي، ويدل على هذا إيرادات العام الماضي. فعلى سبيل المثال أنتجت “بارامونت” فيلمًا قليل التكلفة بعنوان “ابتسامة” Smile لمخرج ومؤلف شاب اسمه باركر فين، وكان المفترض أن يبث الفيلم على منصة “بارامونت +” فقط، ولكن بعد ردود فعل المشاهدين الجيدة خلال عروضه الاختبارية، قررت الشركة أن تقوم بتوزيعه في دور العرض العام قبل المنصة. والفيلم لم ينجح فحسب، بل حقق إيرادات هائلة وصلت إلى أكثر من 217 مليون دولار، علمًا بأن تكلفة إنتاجه لم تتجاوز 17 مليونًا!

ربما يبدو أن سبب نجاح “ابتسامة” هو فكرته المبتكرة حول ظاهرة غريبة وهي انتحار عدد من الفتيات دون سبب واضح وعلى وجوههن ابتسامة عريضة. لكن حتى الأفكار القديمة والمكررة، والأجزاء الباهتة عن الأصل تنجح لأسباب غامضة. العام الماضي شهد مثلًا عرض الجزء الخامس من الفيلم الكلاسيكي “الصرخة” Scream ، الذي حقق ما يقرب من 140 مليون دولار، ما شجع صناعه على إنتاج جزء سادس بدأ عرضه في مارس 2023، وبدلًا من أن تتراجع إيراداته حقق الفيلم خلال شهرين ما يزيد على 170 مليون دولار!

سلسلة أخرى أقل شهرة، وإن كانت لا تقل نجاحًا هي Annabelle، عرض الجزء الثالث منه بعنوان “أنابيل تعود للبيت”، وحقق ما يزيد على 130 مليون دولار، ما شجع الشركة على إنتاج جزء رابع بعنوان “أنابيل- العودة” سوف يعرض خلال هذا العام. وسلسلة “أنابيل” تدور حول دمية بنت يتلبسها الشيطان تقوم بقتل البشر، والفكرة نفسها مقتبسة من سلسلة أخرى حول دمية ولد اسمه “شاكي” حملت اسم “لعب عيال” Child Play صنع منها ستة أفلام ومسلسل من موسمين!

سبب نجاح “ابتسامة” هو فكرته المبتكرة حول ظاهرة غريبة وهي انتحار عدد من الفتيات دون سبب واضح وعلى وجوههن ابتسامة عريضة

القائمة أكبر من أن تحصى، والخلاصة أنه خلال الفترة من 1995 إلى 2015 حققت أفلام الرعب إيرادات تقترب من ثمانية مليارات دولار، علمًا بأن الأنواع القريبة من الرعب مثل الجريمة والتشويق حققت أيضًا 15 مليار دولار خلال الفترة نفسها. والأمر لا يتعلق بالإيرادات فقط، ولكن بقدر الأرباح، ذلك أن تكاليف إنتاج أفلام الرعب ليست كبيرة مقارنة بالأنواع الشعبية الأخرى، وأحيانًا تحقق نسب ربح خيالية، وعلى سبيل المثال تكلف فيلم “نشاط خارق للطبيعة” Paranormal Activity (2009)، 15 ألف دولار، وحقق إيرادات تقترب من 200 مليون دولار! وقبله بعشر سنوات تكلف فيلم “مشروع الساحرة بلير” Blair Witch Project 600 ألف دولار، وحقق إيرادات تزيد على 250 مليون دولار!

وبشكل عام تشكل أفلام الرعب حوالي ربع قائمة أكثر الأفلام تحقيقًا للإيرادات على مر التاريخ.

خوف تاريخي!

منذ نشأتها، اهتمت السينما بتصوير المشاهد التي تستثير نفور وفزع المشاهدين، أول فيلم يمكن تصنيفه “رعبًا” ظهر في السينما 1895 من إنتاج مخترع السينما في أميركا توماس إديسون، وكان بعنوان “إعدام ماري ستورات”، ويحتوي على لقطة لقطع رأس امرأة، واستخدمت فيه تقنيات الخدع السينمائية! في فرنسا قام جورج ميليه بصنع فيلم بعنوان “القلعة المسكونة”، 1896، مدته ثلاث دقائق يحتوي على وطواط يتحول إلى شيطان، وهيكل عظمي وأربعة أشباح، واعتمد الفيلم أيضًا على الخدع التي كان ميليه يبتكرها.

هذان الفيلمان المتوفران على YouTube يمكن أن يثيرا الابتسام الآن من سذاجتهما، ولكن في زمن صنعهما كانا يثيران الهلع وصرخات المشاهدين!

الازدهار الحقيقي لأفلام الرعب حدث في ثلاثينيات القرن الماضي في أعقاب الأزمة الاقتصادية الكبرى (ما أشبه الليلة بالبارحة!)، وكانت شركة “يونيفرسال” الوليدة حديثًا هي أول من راهن على هذا النوع الفني، من خلال إنتاج سلسلة من الأفلام حول دراكيولا وفرانكنشتين والمومياوات وغيرهم من المسوخ. وتلخصت المعادلة الرابحة التي استمرت حتى الآن في إنتاج أعمال قليلة التكلفة (لا تحتاج إلى النجوم أو كبار المخرجين والمؤلفين)، تلعب على حكايات وأساطير الرعب الشعبية، وتثير أكبر قدر من القشعريرة والتوتر داخل المشاهدين من خلال العناصر السينمائية المميزة من تقنيات التصوير والخدع والموسيقى والماكياج.. إلخ.

تقنيات الرعب!

من المتعارف عليه أن الأفلام أكثر إرعابًا من الأدب، ليس فقط بسبب كون السينما تجسد الخيال من خلال الصور المتحركة، ولكن أيضًا بسبب التقنيات السينمائية المميزة مثل الموسيقى والمونتاج. السينما تخاطب الحواس مباشرة، البصر والسمع تحديدًا، وتصدم العين بمشاهد الدم واللحم الممزق، وملامح المسوخ المنفرة، والأصوات المفاجئة المؤذية للأذن. وتعتمد أفلام الرعب الحديثة على الصوت بشكل رئيسي، من خلال الصمت الذي يلعب دورًا كبيرًا في صنع الترقب وانتظار المخيف، ثم الصوت العالي المفاجئ!

الجفلة، أو “الخضة”، هي تخصص سينمائي بحت، تتفنن في صنعه أفلام الرعب.

في العادة يفترض أن قارئ ومشاهد الرعب لا يخشى على نفسه شخصيًّا، ولكن على الشخصية التي تتعرض للخطر، وكلما كانت هذه الشخصية محببة إليه خشي عليها أكثر. أما الشرير، الوقح، الذي يستحق أن يأكله الوحش، فإن المشاهد يشعر بالخوف وبقليل أو كثير من الشماتة عندما يأكله الوحش. صحيح أن المشاهد يمكنه أن يتخيل، عن طريق التماهي والاندماج، أن رعب القصة أو الفيلم يمكن أن يؤذيه شخصيًّا ويعيد توجيهه إلى نفسه، ولكن تظل هذه العملية محدودة، تخضع لتحكم المشاهد الذي يمكنه فصل نفسه وإبعادها وقتما يشاء.

سلسلة “أنابيل” تدور حول دمية بنت يتلبسها الشيطان تقوم بقتل البشر، والفكرة نفسها مقتبسة من سلسلة أخرى حول دمية ولد اسمه ”شاكي“

لكن سينما الرعب الحديثة تميل أكثر إلى جعل المشاهد ضحية داخل قاعة العرض، وأن يخاف على نفسه أيضًا، إذ يتحول الفيلم من وسيط تعبير وتوصيل إلى مصدر مباشر للخوف عن طريق التصوير والصوت وصنع الترقب و”الخضة”.

عندما تتحرك الكاميرا ببطء داخل مكان خطر، حيث يمكن أن يرقد المسخ أو القاتل أو الحيوان المفترس، هناك الخوف الناتج عن الحكاية، على الشخصية التي تقترب غير واعية من الخطر، ولكن هناك أيضًا الخوف على نفسك من رؤية شيء بشع أو سماع شيء مرعب. المشاهد يشعر بالخوف فعليًّا من التعرض لأصوات وصور مفاجئة، إنه يتوقع المخيف، فيخاف، ويخاف أيضًا ليس من الشيء المخيف، ولكن من رد فعله على “الخضات” المتوقعة. وكما يقول ألفريد هيتشكوك “الخوف لا ينتج عن “الفرقعة”، ولكن من انتظارها”. أو كما قال الرئيس الأميركي فرانكلين د. روزفلت ذات مرة: “الشيء الذي يجب أن يخيفنا هو الخوف نفسه”!

كلنا نحب الرعب

قبل أن نسأل عن سبب إقبال الناس على أفلام وروايات الرعب، لنسأل أولًا: هل يحب الناس -بالفعل- الرعب؟

الإيرادات التي تحققها روايات وأفلام الرعب أكبر دليل على ذلك. حسب عدد من الدراسات الحديثة التي أجريت في أوربا وأميركا فإن أكثر من 50% من الذين شملتهم الاستطلاعات يحبون مشاهدة أفلام الرعب جدًّا، بينما يقل عدد الذين يكرهون مشاهدتها عن 30%، وأقل من 20% لا يحبون ولا يكرهون مشاهدتها.. ما يعني، ببساطة، أن أغلب الناس يحبون التعرض للرعب!

لكن الدراسات تبين أيضًا أن هواة أفلام الرعب ليسوا شيئًا واحدًا، وأن تفضيلاتهم مختلفة. هناك أنواع كثيرة من الرعب، والبعض مثلًا يفضل أفلام القتلة المتسلسلين ولا يتحمل أفلام الأشباح، بينما يفضل البعض أفلام المسوخ والزومبي، ولا يتحمل الرعب النفسي.

أنواع من الخوف

يعدد كاتب روايات الرعب الشهير ستيفن كينج أنواع الرعب التي تخيفه كالآتي: الظلام، الأشياء الإسفنجية، التشوه، الثعابين، الفئران، الأماكن المغلقة، الحشرات (خاصة العناكب والذباب والخنافس)، الموت، الآخرين (البارانويا)، والخوف من شخص آخر.

وبشكل عام يمكن تقسيم قصص الرعب إلى فئتين: “الرعب الخارق للطبيعة” و”الرعب النفسي”. يعتمد الرعب الخارق للطبيعة على تعليق قانون أو أكثر من قوانين الفيزياء، ويصور شيئًا خارقًا للطبيعة مثل الأشباح أو المسوخ الخيالية، وينتمي لهذا النوع أفلام مصاصي الدماء والزومبي والأشباح والشياطين التي تتلبس جسد الإنسان، ومن أشهرها مثلًا فيلم The Shining (ستانلي كوبريك، 1980).

بشكل عام تشكل أفلام الرعب حوالي ربع قائمة أكثر الأفلام تحقيقا للايرادات على مر التاريخ.

الرعب النفسي لا يخالف قوانين الطبيعة، ولكنه يعتمد على مصادر خوف طبيعية، حتى لو كانت صعبة التصديق أحيانًا، السفاحين، والقتلة المتسلسلين، المجانين، الكوارث الطبيعية، قروش البحر وطيور الجو. ومن أشهر أفلام هذا النوع “سايكو” (ألفريد هيتشكوك، 1960) “وفكوك” Jaws (ستيفن سبيلبرج، 1975) و”صمت الحملان” (جوناثان ديمي، 1991).

أيًّا كان نوع الرعب الذي يفضله المرء، لماذا يحب أغلب الناس مشاهدة أعمال تصيبهم بالخوف والهلع والقلق والتقزز وسائر المشاعر السلبية التي يسعى المرء لتجنبها في حياته الواقعية؟ والأكثر من ذلك لماذا يقبل أناس مثقفون عقلانيون من هواة أفلام الرعب تسليم رؤوسهم لأعمال “تافهة” مضمونًا وشكلًا، تتناول أحداثًا وشخصيات “سخيفة” وغير قابلة للتصديق؟

البحث عن سر اللغز

هناك عشرات الأبحاث التي أجريت خاصة خلال العقد الأخير في محاولة سبر أسرار هذه المفارقات وتفسيرها علميًّا. وقد توصل الباحثون إلى عدد من النتائج، لكن الحق يقال، إن هذه الأبحاث لم تكشف بعد سر هذا اللغز الغامض، الذي يصفه أحد الباحثين بأنه أكثر غموضًا من كل أفلام الرعب!

من بين هذه الدراسات مسح حول نوعية من يشاهدون أفلام الرعب ولماذا أجراه “معمل أبحاث الخوف المصنع” Recreational Fear Lab بجامعة “آرهوس” بالدنمارك. شمل المسح 250 شخصًا أميركيًّا من هواة أفلام الرعب، وكشف أن هناك ثلاث مجموعات من محبي الرعب:

منذ نشأتها، اهتمت السينما بتصوير المشاهد التي تستثير نفور وفزع المشاهدين

المجموعة الأولى: يمكن أن نطلق عليهم “مدمنو الأدرينالين” الذين يسعون إلى الإثارة، لأنها تشعرهم بالحيوية والسعادة، أو كما قال أحدهم “عندما أصاب بالرعب أشعر أنني حي”!

هذا الشعور تؤكده عالمة الاجتماع ماجري كير من جامعة “بيتسبرج” بولاية بنسلفانيا: “الخوف المصنع يزيد من حيوية نظامنا العصبي- في حالة غياب خطر حقيقي- ويمكن أن يكون مصدرًا للإثارة والشعور الجيد. يضاف إلى ذلك حس الإنجاز، الناتج عن نجاح المشاهد في المرور سالمًا من تجربة مشاهدة الفيلم المرعب”!

المجموعة الثانية: أعربوا عن شعورهم بالضيق والضغط وتعكر المزاج، بل وإصابتهم بكوابيس بعد مشاهدة أفلام الرعب، ومع ذلك قالوا إنهم يشاهدونها لأسباب لا يعلمونها بدقة.

المجموعة الثالثة: قالوا إنهم يشاهدون أفلام الرعب لأنها تساعدهم على تقبل حياتهم والتعامل مع المتاعب والمشاعر السيئة التي تنتابهم في الواقع.

نفس المجموعات الثلاث وجدت في دراسة أخرى على 250 شخصًا دنماركيًّا من زوار أحد “بيوت الرعب” الموجودة بالملاهي، سئلوا عقب انتهاء الزيارة عن المشاعر التي انتابتهم أثناءها.

ما طبيعة محبي أفلام الرعب وهل يختلفون عن الذين ينفرون منها؟ هناك عدد من الأبحاث التي أجريت لمعرفة الفوارق بين محبي الرعب وكارهيه. ولكن المدهش أن الباحثين لم يجدوا -إلى الآن- فوارق كبيرة بين الفئتين. مع ذلك أشارت الأبحاث إلى سمة شخصية يطلق عليها “البحث عن الإثارة” لدى بعض الناس، وهؤلاء يميلون أكثر إلى مشاهدة أفلام الرعب، كذلك أظهرت أن الرجال نسبتهم أكبر من النساء بين هواة الرعب، ولكن ليس بنسبة كبيرة، كما أشارت إلى أن نسبة الشباب وصغار السن أكبر.

وبمزيد من البحث، يتبين أن سمة البحث عن الإثارة ليست بهذه البساطة. فمن ناحية يصعب تمييزها عن سمة “البحث عن التأثر العاطفي”. ونسبة كبيرة من الذين يحبون الأفلام بسبب قدرتها على “إثارة العواطف” يفضلون أنواعًا أخرى غير الرعب، يمكن أن تكون أكشن أو تشويقًا أو حتى دراما عاطفية، وبالتالي تظل الإجابة معلقة على سؤال لماذا يحب الناس أفلام الرعب تحديدا؟

غواية الرعب

في كتابه “لماذا يغوينا الرعب” Why Horror Seduces (دار نشر جامعة أوكسفورد- 2017) يحاول الدكتور ماتياس كلاسين الإجابة عن لغز شعبية أفلام الرعب، منطلقًا من نظرية “النشوء والارتقاء” evolution التي انتقلت من علم البيولوجي إلى العلوم الإنسانية مثل الاجتماع والاقتصاد والنفس، ويدحض كلاسين نظريات فرويد وعلم التحليل النفسي التي لم تعد تصمد أمام الاكتشافات العلمية الحديثة (حسب زعمه) مؤكدا أن ما يتحرك داخلنا أثناء مشاهدة أفلام الرعب ليس مكبوتاتنا ورغباتنا ومخاوفنا النفسية، كما يقول فرويد، ولكن مخاوف حقيقية ورثناها عن أجداد أجدادنا وأن قصص وأفلام الرعب تعتمد بشكل أساسي على مكونات جهازنا العصبي المركزي، وأن فهم الآليات التي تعمل بها هذه القصص والأفلام يحتاج أولًا إلى فهمنا لتاريخ تطور هذا الجهاز وتأثيره على بنائنا النفسي (أو ما يطلق عليه “علم النفس الارتقائي” Evolutionary Psychology، بالإضافة إلى ما توصلت له الأبحاث في علوم أخرى مثل “علم الأعصاب الاجتماعي والعاطفي”، “علم بيئة السلوك الإنساني”، “علم الإدراك والمعرفة”. وفقًا لهذه النظرية فإن البناء النفسي العصبي هو الذي يحدد نوعية قصص الرعب التي ننتجها وأنواع المسوخ التي نتخيلها. ذلك أن قصص الرعب تستهدف آليات دفاعية محفورة عميقًا في عقولنا، وأن ما تفعله هذه القصص هو تنشيط مراكز استشعارالخطر التي تكونت ونمت في عصور قديمة جدًّا (ربما عشرات ملايين السنين) لتساعد أجدادنا على البقاء والارتقاء. البشر لديهم آلية تجعلهم يستمتعون بتصديق ومعايشة القصص (الخيالية) التي تسمح لهم باختبار المشاعر السلبية الحادة طالما كانت داخل سياق آمن، وهو ما توفره أفلام الرعب.

وحسب الدكتور كلاسين، فإن قصص وأفلام الرعب تعمل كأفضل ما يكون عندما تستهدف مراكز إدارة الخطر من خلال قصص تعكس أو تستجيب لمخاوف اجتماعية ثقافية معاصرة. لقد ولدنا لنخاف، ولكن الأشياء التي نخاف منها تتكون وتتخذ أشكالها من خلال الثقافة، ولعل ذلك سبب تغير أدب الرعب على مر العقود، ومن ثقافة لأخرى. مصاصو الدماء يصبحون الأكثر شعبية في وقت ومجتمع ما، في بعض الثقافات، بينما يصبح الزومبي الأكثر شعبية في وقت ومجتمع ما. إن صعود وانحدار شعبية نوع ما من أفلام الرعب ليس شيئًا اعتباطيًّا، ولكن يحدث وفقًا لتفاعل الموروث البيولوجي مع الموروث والحاضر الثقافي أو ما يطلق عليه كلاسين الـ”بيو-ثقافي”!

لا خوف من الخوف

في بحث آخر أجري في جامعة “لايبزج” بألمانيا عن تأثير درجة حساسية المرء على استعداده لمشاهدة أفلام الرعب، ودرجة تأثير أفلام الرعب على حساسية المشاهد، بيَّن الاستطلاع الذي أجري على 170 شخصًا بالغًا أن درجة تعاطف المرء وحساسيته ليس لها علاقة بقدرته على الاستمتاع بأفلام الرعب، ولكن الذين يتمتعون بقدر أكبر من التعاطف مع الآخرين يجدون صعوبة أكبر في تحمل مشاهد التعذيب والإيذاء التي تتعرض لها الشخصيات، ولكنهم يستمتعون أكثر من غيرهم بمشاهد الخطر والإثارة. وهو ما يعني أن درجة تعاطف المرء مع الآخرين يمكنها أن تزيد أو تقلل من الاستمتاع بأفلام الرعب، بناء على نوعية الفيلم المعروض!

الأفلام أكثر إرعابا من الأدب، لأن السينما تجسد الخيال من خلال الصور المتحركة، مع التقنيات السينمائية المميزة مثل  الموسيقى والمونتاج

ولكن هل تؤثر أفلام الرعب على الحياة الواقعية؟ هل تجعل المرء أكثر عنفًا، أو خوفًا؟

رغم تأثيرها الوقتي الذي قد يصيب المشاهد بالانزعاج والقلق، وحتى إصابته بالكوابيس، إلا أن علماء النفس يقولون إن أفلام الرعب ليس لها تأثير دائم على صحة المرء النفسية والعقلية. وعلى العكس توصلت أبحاث أخيرة إلى أنها يمكن أن تساعد المرء على تحمل مخاوف الحياة الواقعية. والمقصود ليس مواجهة الوحوش والأشباح والقتلة المتسلسلين، وإنما القدرة على التعامل مع مشاعر الخوف، ومواجهتها بالآليات والأدوات التي يكتسبها المرء من مشاهدة أفلام الرعب. وفي دراسة أميركية حديثة أجريت على 300 شخص، تبين أن هواة أفلام الرعب استطاعوا مواجهة جائحة “كوفيد- 19” بشكل أفضل، لأنهم كانوا مستعدين نفسيًّا لمثل هذه المخاوف! أو على حد تعبير الدكتور كلاسين: “أفلام الرعب قد تكون بمثابة “فاكسين مضاد للخوف” يساعد المرء على مقاومة مخاوف الواقع. الطريف أن بعض الذين شاهدوا نوعية أفلام Zombie Apocalypse (التي تقوم على فرضية اجتياح الموتى الأحياء ونهاية العالم) كانوا الأكثر استعدادًا، وقال بعضهم إنهم كانوا يعرفون مسبقًا ماذا يفعلون، وأنواع السلع التي يقومون بتخزينها!

 أول فيلم يمكن تصنيفه رعب ظهر في 1895 السينما من انتاج مخترع السينما في أمريكا توماس إديسون

تقول الدكتورة أماندا آن كلاين، التي تقوم بتدريس أفلام الرعب، إن الخوف مثل المشاعر الأساسية الأخرى، ينتج رد فعل كيميائيًّا داخل الجسد، يمكن أن يكون ممتعًا أو مريحًا، وتنتمي أفلام الرعب إلى ما يمكن ان نطلق عليه “الأنواع الفنية البدنية”، التي تخاطب جسد المشاهد، ويندرج تحتها البورنوغرافي، والكوميدي، والميلودرامي والأكشن والرعب. هذه الأنواع تجبر جسد المشاهد على رد فعل قد يكون البكاء أو الضحك أو الخوف.

من ناحية أخرى، كما تشير كلاين، توفر أفلام الرعب فرصًا لصناعها وجمهورها لاستكشاف الصراع الإنساني الجوهري بين الذات و”الآخر”، ذلك أن شيئًا خارج الذات يمكن أن يكون مرعبًا، وأي شيء يمكن أن نعرفه باعتباره “آخر”:

“في الثلاثينيات كانت المسوخ، وكلها كانت تأتي من خارج البلاد، في الخمسينيات ازدهرت أفلام الخيال العلمي التي تدور عن غزو الفضائيين، وفي السبعينيات ازدهرت أفلام الرعب العائلي والمسوخ البشرية”. حين ننظر لكل فترة سياسيًّا واجتماعيًّا يمكننا أن نقول إنها أفرزت نوع الرعب الذي يناسبها.

** المصدر: مجلة الجسرة الثقافية. العدد: 62

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى