أن تعيش مع الخوف

أحمد عبد اللطيف
Latest posts by أحمد عبد اللطيف (see all)

نص: خوان خوسيه مياس

ترجمة: أحمد عبد اللطيف

 

في هذا النص يلقي الكاتب المبهر خوان خوسيه مياس الضوء على واحد من الشرور المعاصرة في المجتمعات الغربية: الإفراط في المعلومات، التنافس مطلق الجماح، التطلب الذاتي المبالغ فيه. السعي للكمال الهوسي. أسباب ذلك متعددة، والحلول متنوعة. والكاتب يتناول هنا حياة الأشخاص الذين يواجهون القلق والخوف.

——-

أنا جبان مزمن، وبالتالي، مهما اختفى الخوف لحظيًا، يعود دائمًا. اليوم على سبيل المثال، استيقظت في أحسن حال، ومسرورًا، بفكرة أن أتقدم في مشروع يدور في ذهني منذ عدة أشهر. تناولت فطوري رائقًا، وخرجت لأتمشى بحماس. قدماي تستجيبان، النفس يعمل بانتظام، والمناخ مثالي. كل شيء رائع. وعند عودتي استحممت وارتديت ثيابي وأخذت أصفّر بمرح، وفيما كنت أفتح الكمبيوتر ألقيت نظرة على عناوين الجرائد. حينها، وبدون أن أعرف السبب، بدأت أشعر بضيق جسدي يتناقض مع النشوة السابقة.

تركت الجريدة جانبًا وسحبت الكيبورد ناحيتي واستعددت لإتمام مهمتي. لكني لم أستطع كتابة عبارتين متتاليتين، وكنت مشحونًا وغارقًا في الشعور باقتراب كارثة. شيء مرعب على وشك الحدوث. سيرن التليفون، وشردت، سأتلقى خبرًا لا يمكن احتماله. الموبايل لم يرن، فتحققت أنه ليس في وضع الصامت، ثم جربت الاتصال عليه من التليفون الأرضي لأرى إن كان يعمل.

وكان يعمل.

الدائرة الجهنمية لأدوية القلق هي: التعود والإدمان. التعود يعني أن الجسد يعتاد وليحصل على الأثر نفسه عليك أن ترفع الجرعة

محض وسواس، قلت لنفسي وأنا أفرد ذراعَي وساقَي، وأنفضهما بقوة لأطرد خوفي عبر أطرافي. لكن الهلع يستمر في مكانه، في منطقة الحجاب الحاجز، ويندفع لأسفل، ناحية الأمعاء، رغم أنه يتمدد كذلك في شكل مروحة باتجاه الصدر، كما يحدث عادةً في نوبات القلق.

إنه خوف فارغ، قلت لنفسي، رعب بلا محتوى. لم يحدث شيء، لن يحدث شيء، أنت تعرف ذلك بالخبرة. لكن تمرين العقلنة لم يعمل كذلك. وشيئًا فشيئًا كان خوفي يتضاعف.

حكيت الحدث، كأنه عابر، لطبيبي النفسي دييجو فيجيرا، إذ كنت اتفقت معه على الغداء لنتحدث عن القلق، وكان قد اقترح عليّ كتابة شيء عن الموضوع لأفهمه. وفيجيرا هو مدير مستشفى ديا بونثانو ويظهر رقم 3 في قائمة “ماس مدريد”، التي يرأسها إنييجو إريجون، في الانتخابات المستقلة المقبلة. وكنت عرفته لأني سمعته ذات يوم يتحدث في الراديو ولفت انتباهي وجهة نظره الإنسانوية التي أشار إليها في المشاكل النفسية.

– هل تتذكر الخبر الذي وقعت عليه عيناك وأحدث لك اضطرابًا فيما كنت تفتح الكمبيوتر؟

–  لا أعرف. أعتقد أني صادفت خبرًا حول الصراع الكتالوني وخبرًا آخر حول ارتفاع إيجارات الشقق والصعوبة التي يواجهها الشباب للاستقلال. وهي أخبار كل يوم.

– الآن أراك بقلق أقل.

– تناول أورفيدال قبل الخروج من البيت.

– هل تتناوله باستمرار؟

– من أجل النوم ومنذ سنوات.

– هل تأخذ الجرعة نفسها؟

– نعم، لا أرفعها خشية الإدمان.

– لو أنك تتناول منذ سنوات الجرعة نفسها، فأغلب الظن أن الأورفيدال يعمل كمؤثر وهمي. الدائرة الجهنمية لأدوية القلق هي: التعود والإدمان. التعود يعني أن الجسد يعتاد وليحصل على الأثر نفسه عليك أن ترفع الجرعة. في النهاية يمكن أن تحصن نفسك من الكميات التي تتناولها لأن هذه الجرعات لها آثار جانبية: مشاكل في الذاكرة والتركيز، على سبيل المثال. هكذا تأتي لحظة لا يعرف فيها الناس ماذا يفعلون، وينتهي بهم المطاف مع الأدوية المتعددة. وهكذا، يضيفون إلى مضادات القلق مضادات اكتئاب، على سبيل المثال.

  • هناك درجة من القلق ضرورية جدًا لأنها يمكن ترويضها، وعندما نصغ لها، ستقول لنا أشياء هامة عن أنفسنا وعن العالم الذي نعيش فيه

– ألم يكن صوابًا أن أتناول الأورفيدال؟

  • لا أعرف، أنا لا أعرفك، لكن ربما نوبة القلق التي عانيت منها في الصباح يمكن مداوتها بطرق أخرى. هناك درجة من القلق ضرورية جدًا لأنها يمكن ترويضها، وعندما نصغ لها، ستقول لنا أشياء هامة عن أنفسنا وعن العالم الذي نعيش فيه. بالإضافة، فالقلق ميكانيزم ذو ترابط اجتماعي، مولّد للتضامن. وأحد أفضل مضادات القلق هو اللمس، هذه الحاسة التي تختفي من عاداتنا التواصلية. أنا لا أكتب مضادًا للقلق إن لم يكن المريض قد بدأ علاجًا معي أو مع طبيب آخر، لأن الدواء يخفي العرض لكنه لا يقضي على السبب. ما يحدث أننا أمرضنا حياتنا اليومية بشكل كبير. والقلق الذي أثاره خبران في جريدة، نقلا لك معلومة هامة حول العالم الذي نعيش فيه وكيف تغدو مشاكل محددة ذات تأثير مباشر على الحياة الشخصية للناس. نقول إن الجسد يحدثنا وأنه يدفع الثمن.

– أي ثمن؟

– ثمن ما جرحنا ولا يزال معنا كذاكرة ضمنية، لا واعية، ويتصرف بحميمية مع الواقع المعيش.

– هل يجب أن أسمع لقلقي بدلًا من أن أعالجه؟

– أكرر انني لا أعرفك وهذه ليست جلسة علاج، نحن نتغدى. بالمناسبة، كيف حال السمكة القاروص؟ سمكتي البوري هائلة. لديّ انطباع بأنك جاوبت نفسك.

– هل القضايا ذات الطابع الاجتماعي والسياسي لها تأثير كبير في القلق الفردي؟

– هناك وجهات نظر كثيرة حول القلق وطريقة تناوله. نحن الآن في تقاطع طرق، رغم أننا بالأساس نقدّر الاتجاهين: الاتجاه الذي يتلقاها كمشكلة طبية أخرى، ويعالجها ونقطة، والاتجاه الذي  يحاول تناولها كعقدة. بالإضافة، ثمة من يعتقد خطأً بأنه يمكن علاج القلق بدءًا من التركيز الأولي. بالفعل، ليس من المعتاد أن يصل القلق إلى عيادة الطبيب النفسي لأنهم يعتبرون القلق شيئًا صغيرًا يمكن حله بالدواء الكيميائي.

– هل هناك كبسولات ناجعة؟

– هناك مضادات قلق جيدة نجح بها الطب النفسي في بدايات ستينات القرن الماضي. لكنها لم تبتكر شيئًا أفضل. أساس كل شيء هو البينزديازبين، وهو في متغيراته المتنوعة يمكن أن يكون باسطًا للعضلات أو منومًا.

– كنت تتحدث عن اتجاهين كبيرين.

– نعم، عن كيف يُفهم القلق في الطب النفسي وجزئيًا في علم النفس وعن كيف يُفهم من العقدة. في الطب النفسي، بشكل عام، يُعتقد أن ثمة عنصرًا جسديًا أو بيولوجيًا هو ما يجعل أفرادًا أكثر عرضة لمعاناة القلق أكثر. بحسب هذا الاتجاه الهام ستكون هشاشتنا البيوكيميائية بسبب عناصر غير مفهومة جيدًا ودراسة من خلال مؤسسات كبرى، بالذات معامل صيدلانية شديدة الاهتمام بتخليق دواء للقلق ينفع كما تنفع أدوية المرض الأخرى ذات الطابع العضوي.

أحد أفضل مضادات القلق هو اللمس، هذه الحاسة التي تختفي من عاداتنا التواصلية

– والاتجاه الآخر؟

– الاتجاه الآخر يمثله من يعتقدون أن القلق والمرض العقلي في العموم يجب رؤيته، كما أشرت مسبقًا، على ضوء العقدة. نقول إن الهشاشة أمام القلق مشيدة من مجموعة عناصر بشكل تراكمي وليس خطيًا. أحد هذه العناصر، بالطبع، هو المناخ الاجتماعي والسياسي.

– نسير، إذن، مع هذا الاتجاه والاتجاه الآخر نلملم أوراقنا؟

– بالطبع. أنا أشرح ذلك للمرضى ولعائلاتهم ضاربًا مثالًا بكوب في قعره عنصر من الهشاشة ناتج عن عناصر بيولوجية أو وراثية. يمكن أن يضاف إلى هذا العنصر عنصر التربية، إذ بناء على كيف نشأت، أنت أكثر هشاشة أو مقاومةً للقلق. هكذا، فالتربية الصحيحة يمكن أن تقلل العناصر الوراثية. يجب أن نضيف لهذه القشرة عنصر المحيط الاجتماعي. الفقر، مثلًا، يزيد احتمالات الإصابة بالقلق لأنه في نطاق الفقر تصير الحياة أكثر ضغطًا. كما ترى، يمكننا أن نواصل في فتح آفاق متعددة ونضيف عناصر جديدة، ولا واحد منهم بمفرده سيفسر حالة القلق.

– ومتى يظهر الجانب الاجتماعي؟

– يظهر بالذات في المراهقة، لأنك تخرج من نطاق العائلة وتبدأ تجربة الحياة مع بقية أندادك في عالم مليء بالتنافس داخل مجتمع تزداد نرجسيته يومًا وراء يوم. في هذه الفترة تظهر الهرمونات الجنسية، وبقدر ما تحدث تغيرات جسدية تخلق أحد عناصر القلق، وتجعلنا نعيش لحظات هشاشة كبرى. لكن حين لا تظهر في المراهقة أنواع قلق مختلفة، يجب أن نقلق.

– هل إذن أنواع قلق صحي؟

– ثمة قلق صحي يؤدي لروابط اجتماعية ويساعدك على رؤية حدودك. ينبغي تقوية هذا القلق وفهمه بدلًا من قمعه بمضادات القلق.

 شيء مرعب على وشك الحدوث. سيرن التليفون، وشردت، سأتلقى خبرًا لا يمكن احتماله. الموبايل لم يرن، فتحققت أنه ليس في وضع الصامت

– وما الحد الفاصل بين القلق الصحي والمرضي؟

– ما من حد فاصل، أحدهما استمرار للآخر. حد القلق المرضي مؤطر بالشخصنة ومتأثر بالثقافة. في بعض الثقافات أي درجة من القلق تُستقبل كنوع من الشر. في ثقافات أخرى لا تمثل أي أهمية. الحد الفاصل هو تقدير الشخص نفسه للمعدل الطبيعي. من هنا تظهر الحاجة إلى المساعدة، التي كما قلت لك تقديرًا شخصيًا. لو بحثت بين أطباء الطوارئ، سترى أنهم يعالجون بناء على خبرتهم الشخصية.

– ما من ترمومتر موضوعي؟

– غير معتاد استخدامه. المتخصص في الطوارئ غارق في ثقافته الطبية ومتأثر بها. يتوقف ذلك على دمى معرفته البيولوجية. هذه الشخصنة مشكلة في لحظة اعتبرنا فيها مرضًا أي سلوك طبيعي، بعد غزارة الحلول الدوائية. نكتب مضادات قلق للشفاء من قلق يمكن الشفاء منه بطريقة أخرى لتكون أكثر قوة. لو أنك تناولت مضاد القلق، سيتوقف جزؤك النفسي، ستهزم مقاومتك أمام العدو.

– بالنسبة للصحة العامة، أظن أن مضاد القلق أرخص من العلاج النفسي. علبة الأورفيدال ثمنها يورو وبها 50 قرصًا.

– طبعًا. المثير للفضول، كما قلت لك، أنه منذ ظهور البينزوديازبين، منذ ما يقرب من قرن، لم يظهر شيء أفضل.

– وهل نتناول في إسبانيا كميات كبيرة من مضادات القلق؟

– إسبانيا أكثر بلد أوروبي يتناول هذه المضادات، والثاني على العالم.

  • النساء أكثر من الرجال أم العكس؟

– النساء نسبة أكبر، من ناحية لأنهن يعترفن بقلقهن وحزنهن بشكل أفضل. وأيضًا لأنهن يلجأن لاستشارة طبيب. هن أكثر تعودًا على طلب المساعدة، وأكثر تركيزًا في ذواتهن. في المقابل، نحن كرجال لا نعترف بسهولة بمشاكلنا العقلية ونحن أقل احترامًا للأدوية. تقبل النساء أيضًا الخضوع للعلاج أفضل من الرجال.

– بدأت أشك أن تناولي للأورفيدال كان خطأً.

  • لا أعرف. لو أردت، أخصص لك موعدًا (ختم بنبرة مزاح). الآن يجب طلب القهوة لأن عندي استشارة بعد برهة.

في الرابع من يناير، بعد أيام من لقاء دييجو فيجيرا، وفيما كنت أفطر، فتحت الراديو في لحظة إذاعة وضع المرور في مدريد وضواحيها. بشكل عام، لا أعير انتباهًا لهذه التحذيرات لأني أعمل  من البيت ولا يؤثر عليّ الازدحام المروري. لكن هذا الصباح، لأسباب غير مفهومة، وجدت نفسي مشغولًا بالقصة الكاملة لما يحدث في الطرق السريعة المختلفة وشوارع المدينة الرئيسية، وشعرت بالذهول. لم تبدُ كمعلومة، بدت كمعركة في حرب كان فيها الجنود سائقي سيارات. تعاقبت على ذهني صور غزو نورماندي وإنقاذ الجندي ريان. كنت أرى السائقون يتخذون مواقع استراتيجية في خانات مختلفة من طريق إم 30، حيث تنقلب سيارات النقل بما تحمله من خنازير أو دجاج فتغزو الشارع. كان المذيع ينقل قلقه مثل الراديو الحزين في قصة شيفير، ويبث حسرته.

قضيت نصف المساء مع ريكاردو ومونيكا (اسمان مستعاران) لأكمل القصة بشهادتهما، إذ قالا إنهما شابان قلقان. ورغم أني افترضت أن الزحام سيختفي في الخامسة والنصف، لعنت نفسي لأني برمجت موعدي في اليوم السابق لليلة الملوك، حيث الشوارع مكتظة والمحلات ملأى بمواطنين قلقين. لو كان ذلك قليل، اتفقنا أن نلتقي في كافتيريا الكورتي إنجليس عند تقاطع برينثيسا مع  ألبيرتو أجيليرا، حيث وصلت قبل الموعد بنصف ساعة، كعادتي، لأتفقد المكان المحيط. ومع أني رأيت هذه البناية الضخمة ألف مرة، لم أتأمل قط شكلها كصندوق. صندوق كبير، وخالٍ من أي نافذة أو نوع آخر من الشرفات تطل على الخارج. لقد استيقظت هذا الرابع من يناير بإحساس الهجر، بهذه الطريقة لا أعرف إن كنت رأيت الواقع كما هو أم على عكس ما هو، لكني كنت أراه في كل الأحول خانقًا ومبالغًا فيه.

دخلت المول متصنعًا الطبيعية وتجنبت المصاعد المزدحمة، على سبيل الاحتياط. كانت السلالم الكهربائية ملأى كذلك بالناس، لكنها تسمح لك بتأمل البانوراما الداخلية ورسم طرق للهروب ذهنيًا في حالة الحريق. الغريب أن السلم رغم أنه يصعد، إذ تقع الكافتيريا في الطابق السابع، إلا أني كنت أشعر بالسفر ناحية أحشاء المول. كنت أتعمق فيه كلما صعدت. وكان تلامس الأجساد يذكرني بتلامس النمل حين تتبادل الفيرومونات على حافة بيتها.

خطرت لي صورة بيت حيوانات يشغل فيه الناس محل الزواحف ويتحركون بتوتر في أماكن تبدو معدة بكفاءة من وجهة نظر جودة الأوكسيجين وكثافة الضوء والسيطرة على درجة الحرارة. لكن لو تأملت بدقة وجوه الناس، سترى القلق في عيونهم، في أنفاسهم، في طريقة قبضهم على الأكياس بيديهم الاثنتين. كل الناس يقومون بمشتروات عيد الملوك، مشتروات متسرعة، في الساعة الأخيرة، وربما بميزانية مستنفدة بعد رأس السنة والكريسماس والبلاك فرايداي وكل ذلك. بالإضافة، بدأت التخفيضات أو على وشك أن تبدأ.

لحسن الطالع، جزء من الكافتيريا كان مطوقًا بالزجاج، مثل السقف أو الجزء الأمامي لبيت الزواحف، ومن داخلها تتأمل جزءًا كبيرًا من سماء مدريد. كانت تغرب، لكن أنوار البنايات تمنح أملًا ودفئًا. اخترت منضدة بعيدة عن البار، لا تبلغها ضجيج صناعة القهوة، وجلست أنتظر. كانت الساعة 17:20، وعند الساعة 17:30، في الموعد بالضبط، لم يصل لا ريكاردو ولا مونيكا. وخشيةً أن يكون قد وقع مكروهًا، أخرجت التليفون لأتصل، لكني قمعت رغبتي. فكرت أن أمنحهما 10 أو 15 دقيقة ذوقيًا.

غير أن قلقي احتمل 5 دقائق فحسب.

عند الساعة 17:35 دقيقة ضغطت على رقم ريكاردو واجابني الأنسر ماشين: مغلق أو خارج نطاق الخدمة.

لن يأتيا، قلت لنفسي.

في هذه اللحظة  ظهرا واعتذرا عن التأخير وجلسا. طلبنا ماءًا بصودا وغير صودا ودخلنا في الموضوع مباشرةً. كانا في الثامنة والعشرين، بحسب ما قالا. ريكاردو يحضر ماستر في التقنيات المعرفية بعد أن انتهى من دراسة الفلسفة. ومونيكا تنهي دراسة الطب وتفكر في التخصص في الطب النفسي. كان هو طويلًا وقويًا ومنفتحًا، وهي قصيرة وخجولة ومتأملة.

قال ريكاردو:

– تعرضت فقط لنوبتي قلق، أو هلع، أو لأزمتين عصبيتين، حسب المصطلح الذي نستخدمه. حدث ذلك يوم أحد ويوم خميس، التالي ليوم الأحد، رغم أن أزمة الخميس أكثر رخاوة، والآن أشرح لك. لو قسّمت النوبة من 1 إلى 10، فيوم الأحد 10 ويوم الخميس 8.

– كيف كانت؟

– كنت في البيت مساء الأحد، مع عائلتي بأكملها. أجلس في غرفتي وأحاول إنهاء عمل من أجل الجامعة. كان ذلك أحد عناصر الضغط، ربما العنصر الأساسي، رغم وجود عناصر أخرى ذات طابع عائلي. أعتقد أنه يمكن إضافة أني ألعب بوكس وعلى وشك مباراة.

محض وسواس، قلت لنفسي وأنا أفرد ذراعَي وساقَي، وأنفضهما بقوة لأطرد خوفي عبر أطرافي. لكن الهلع يستمر في مكانه، في منطقة الحجاب الحاجز، ويندفع لأسفل، ناحية الأمعاء

– لكن العامل الرئيسي هو عمل الجامعة؟

– أظن أنه نعم، بسبب معايير الجودة التي أفرضها على نفسي، لإتمام الأشياء على أكمل وجه. الحالة أن مشاعر متوترة وصعبة الشرح انتابتني، ضغط كبير في رأسي. اتصلت بمونيكا، ولم تتحسن الأمور إذ هلعت قليلًا وشعرت بتوتر أكبر وأنا أتحدث معها. ولأني لم أتعرض لتجارب  مشابهة، لم أعرف كيفية تصنيف هذه المشاعر. كنت دائمًا عصبي المزاج، لكن هذه الحالة شيء آخر. قمت بتمارين للنفس، تناول كوبَي تيلا. ساعدني كثيرًا أن قلت لنفسي: “طيب، لقد وصلت إلى القمة، هذه هي القمة، فلأترك عمل الجامعة ونقطة”. كانت فكرة ترك عمل الجامعة سببًا للهدوء. “فلأترك الماستر وأبقى في البيت وانتهى الأمر”. لكن بعد أسبوعين في الفراغ عدت للعمل مجددًا. أنهيت البحث والماستر وأواصل استكمال أهدافي. في تلك اللحظة كنت أحتاج إلى تفريغ رأسي من ضغط أنا من فرضته على نفسي، أنا وحدي.

– متى كانت هذه الأزمة؟

– منذ عامين في أبريل.

– وماذا حدث في الخميس التالي؟

– الشيء نفسه، لكن بكثافة أقل. وحينها رحت إلى الطورائ وتصنعت أني في حالة أسوأ مما كنت عليها ليعطوني مضاد قلق.

– وأعطوك؟

– نعم.

– وتناولتها؟

– لا، احتفظت بها على الكومودينو، لكن حقيقة أني أمتلكها هدأتني.

– كنت تقول إنك عصبي المزاج طول عمرك.

– طيب، كنت أتعثر في الدراسة، ولم تكن تصل حد نوبات الهلع. لكني كنت أتعثر من كثرة الطلبات. ماذا بدأت أفعل؟ تجنب الامتحانات. كنت أجهز نفسي ثم لا أتقدم لأتجنب الوضع، لانه كان وضعًا ضاغطًا.

– وما كان رأي أبويك؟

– في البيت كنت أقول كل شيء على ما يرام، وأحصل على درجات مرتفعة، وكنت أتظاهر بأني طالب مجتهد. كل شيء كان رائعًا. لكن بالطبع ثمة لحظة يجب أن تنهي فيها دراستك ولم تنهها. كل شيء انكشف، وبدأت طريق العلاج لأرى لماذا يخطر لي أشياء هكذا وهنا بدأت أتعلم أشياءً عني وأكتسب خبرة في إدارة الضغط. المسألة هي التحقق من مكان النمر.

– وأين كان النمر؟

– أتحقق من ذلك رويدًا رويدًا.

– ولم تتناول قط مضادات القلق؟

– أبدًا.

– لكنها معك على الكومودينو.

– بالطبع.

– معالجك هو دييجو فيجيرا، كيف وصلت إليه؟

– عرفت دييجو من توصية معالج مونيكا، يسمى فليكس بلانكو. كنا نريد معالجًا من الخط نفسه، لأن مونيكا كانت اتبعت معه علاجات متتبعة للشفاء من أمراض عقلية مدمرة.

تدخلت مونيكا:

– أنقذ حياتي البدء مع فليكس، قبله لم أتناول إلا علاجًا كيميائيًا. لم نود أن يبدأ ريكاردو جولة  علاجية لا تمس عصب المشكلة. كنا نود علاجًا أكثر تركيزًا على الشخصية.

– هل عانيت من تجارب سيئة؟

– واظبت على عدة عيادات منذ سن السابعة أو الثامنة لأني كنت مصابة بوسواس قهري.

– مثلًا؟

– كنت أغسل يدَي كثيرًا وبالليل كنت أقص كلبسات الملابس الداخلية، السوتيانات، لأني كنت أظن أنها ستخنقني. وفي الثامنة عشرة، حين تعرفت على ريكاردو، صادف حدث قوي هو موت جدتي.

– ماذا حدث حينها؟

– كنت في حالة ميلانكولية استمرت مدة طويلة واضطررت للذهاب إلى التأمين الاجتماعي. وبعد عام من العلاج، بسبعة أقراص يوميًا، بما فيها مضادات الذهان، فكرت أمي أن شخصًا في الثامنة عشرة لا يجب أن تعلق حياته بأقراص وتحرت عن وجود علاج مختلف. حينها عثرنا على فليكس.

– ثم توقفتِ عن العلاج؟

حكيت الحدث، كأنه عابر، لطبيبي النفسي دييجو فيجيرا، إذ كنت اتفقت معه على الغداء لنتحدث عن القلق، وكان قد اقترح عليّ كتابة شيء عن الموضوع لأفهمه

– توقفت عن كل شيء منذ أربع أو خمس سنوات.

– إنجاز كبير، أليس كذلك؟

– مشكلة هذه المسائل غياب المعلومات. لو لم تكن في عائلة مطلعة، عليك أن تتمتع بموارد اقتصادية. التيارات البيولوجية تلغي ما هو شخصي. مشكلة عقلية ليست ورمًا في الكبد.

– كل كتيبات تشخيص وإحصاء الاضطرابات العقليةـ يضيف ريكاردو، تعتبر كارثة لأنها مجانية ومغرضة ومتسلطة ومؤسسية. أنت مصنّف بناء على مصالح من يصنفك.

تدخلت مونيكا:

– الدواء الكيميائي ضروري أحيانًا، لكن ما لا يمكن أن نذهب للطبيب النفسي ليكتب لنا أقراصًا, لو أني لم أعثر على نوع آخر من العلاج، لكنت الآن معلقةً في الأقراص. لا يصح أن يحل القرص محل العلاج. الأفق أن تصل للحياة بدون كيمياء، مثل أن تكسر قدمك، فلا يصح أن تسير حياتك على عكازين.

– هل انتهوا من تطبيق المنهج العلاجي؟ أسألهما.

– نعم، تجيب هي. العلاج يولّد استياء ما، لكن هذا النهج ما يجب إدماجه. هدف العلاج أن تتمتع بوسائل تحمي بها نفسك، وأن تضيف إليها وسائل جديدة.

لأنهي الحوار سألتهما إن كانا يعتقدان أننا نعيش في عالم مقلق، وكلاهما أجاب بالتأكيد.

– انظر إلى الناس الذين يشترون هنا، يقول ريكاردو.

أنظر إليهم. لقد صنعوا جبلًا بمشترياتهم في الكافتيريا، لكنهم يتحدثون بسرعة، وبصوت مرتفع جدًا، ولا يتوقفون عن حركة أجسادهم. يبدون كرجال ونساء وأطفال إليكترونيين.

عندما كنا نودع المكان، تصادفت بصديقة تركض قلقة نحو الداخل. تقول لي إنها نسيت الموبايل وهي تدفع الفاتورة.

  • حظ موفق، قلت لها وأنا أتحسس جيبي، لأتأكد أن موبايلي في مكانه.

 

  • ** المصدر: مجلة الجسرة الثقافية. العدد: 62

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى