الولع بالنص المفتوح يوحد القراء العرب

حتى مطلع الألفية كانت كتابة الـ”نون فيكشن” -وأقرب تعريف لها “السرد الفني” أو “السرد غير القصصي”- مجرد حالات فردية لبعض كتَّاب العالم العربي في الخروج على الأنواع المستقرة المعروفة، من القصة إلى الرواية وحتى السيرة الذاتية وأدب الرحلات، لكن نجاح هذا النوع وإقبال القراء عليه -بشكل غير متوقع- وفوزه بجوائز مرموقة أغرى الأدباء والناشرين، على كتابته ونشره، حتى يكاد حاليًا أن يصبح نوعًا أدبيًّا مستقرًا بدوره!

تمنح كتابة الـ”النون فيكشن” لأصحابها حرية غير مسبوقة في مغادرة “الباترونات” والوصفات والأشكال العادية، كما تمنحهم قدرة غير عادية على التجريب ومزج الكتابة بروح الفلسفة والمعلومات والقراءات والاستنتاجات، ودون أن تربطهم بأشكال سردية، بل إنها تمنحهم الحق في تحطيم القواعد السردية إن جاز التعبير.. فكيف حدث ذلك؟

إيمان مرسال: السرد الفني ليس ظاهرة تخص السنوات الأخيرة

الكاتبة المصرية التي تقيم في كندا إيمان مرسال لديها تجربة ناجحة مع الـ”نون فيكشن”، فقد طُبع كتابها “في أثر عنايات الزيات” عدة طبعات، وفاز بجائزة الشيخ زايد للآداب. تقول إيمان إن تاريخ الأدب العربي منذ عصره الذهبي قدّم أنواعًا مختلفة لكتابة الـ”النون فيكشن”، فكيف تصنف كتبًا مثل “العقد الفريد”، “الحيوان”، “البخلاء”، “طوق الحمامة”، “رسالة الغفران”، “التوابع والزوابع”؟ أيضًا، كتب التراجم وأدب الرحلة والجغرافيا، بحسب إيمان، هي أنواع مختلفة من السرد الفني في تراثنا العربيّ، وحتى داخل كتب تفسير القرآن والفقه قد تجد ذلك السرد الفني/ غير النوعي الذي يسهم في إنتاج المعرفة.

ترى إيمان أن “الأدب العربيّ مثل غيره من آداب العالم يمرّ بانقطاعات واتصالات مع ما أنتجه في الماضي، وربما شهد القرن التاسع عشر موجة جديدة من السرد الفني مثل: “تخليص الإبريز” و”الساق على الساق” فلا الأول مجرد أدب رحلة، ولا الثاني مجرد أسفار ومغامرات. في الكتابين هناك وضعية معقدة لمن يكتب، وهناك بحث وأفكار وتجربة شخصية تنتج معًا طبقات هذا السرد الفني”، مستدركة: “رغم تشكل فن الرواية العربية وتطوره في القرن العشرين، حتى أصبح مع الشعر الحديث (متن الأدب)، استمرّ إنتاج السرد الفني بجانبهما؛ من المنفلوطي والمازني ويحيى حقي وحتى صلاح عيسى، وعبد المنعم شميس، ومحمود السعدني وحازم صاغية”.

تخلص إيمان إلى أن “السرد الفني ليس ظاهرة وُلدت في السنوات الأخيرة، لكن الجديد هو تعدد أنواعه وتجاورها ومقروئيتها، فتجد كتبًا لافتة تنشغل بسرديات المرض مثل “سأكون بين اللوز”، أو “كلبي الهرم.. كلبي الحبيب”، و”مسار الأزرق الحزين”. أو بعلاقة مع الكتب مثل “ضد المكتبة” لخليل صويلح، أو بسؤال فلسفي مثل “كتاب النوم” لهيثم الورداني، أو ببحث في سوسيولوجيا الثقافة مثل “سيرة الرواية المُحرّمة” والقائمة تطول لتشمل بعضًا من الكتب المهمة لصافي ناز كاظم وعزت القمحاوي وحياة شرارة ومحمد المخزنجي، وعادل الميري ومحمود عبد الشكور وشارل عقل وغيرهم”.

بلا ضفاف

*كرم يوسف: الجمهور انتبه بفضل التكنولوجيا إلى أنواع أخرى من الكتابة

الحديث مع إيمان مرسال يقودنا إلى الحديث مع ناشرة كتابها “في أثر عنايات الزيات” كرم يوسف، المشغولة بكتابة الـ”النون فيكشن”، لدرجة أنها خصصت لها سلسلة بعنوان “بلا ضفاف” في دارها “الكتب خان”. تقول كرم إنها خصصت كذلك ورش كتابة لها كذلك منذ عام 2007، وأول كتاب أصدرته في 2009 وهو “السابعة والنصف مساء الأربعاء” كان يضم بعض نصوص لا تخضع لتصنيف، وكذلك “الحجرات” لإيمان عبد الرحيم و”هو عمل في منتهى الأهمية” بحسب كرم. تعلق: “لست مندهشة من حدوث رواج لهذا النوع، فقد كنا متأكدين في الكتب خان أنه سيحصل على مكانه ومكانته، وبخلاف أننا أصدرنا عددًا من الأعمال بالعربية، ترجمنا كذلك بعض الأعمال الأجنبية من هذه النوعية. يجب أن تكون هناك موضوعية في الإشارة إلى دورنا، نحن لن نحصل على جائزة حينما نقول هذا الكلام، لكنه حقنا الموضوعي، نحن لا نصدر الكثير من الأعمال لكننا نصدر أعمالًا مهمة، الناس عندنا بدؤوا يقرؤون هذه النوعية متأخرين، للأسف لأن عوالمنا محدودة ولا نشتبك مع ما يحدث في العالم، ونبدأ غالبًا متأخرين، ولذلك لا يهتم أحد بترجمة أعمالنا، لكن لحسن الحظ أن الجمهور انتبه بفضل التكنولوجيا إلى أن هناك أنواعًا أخرى من الكتابة -بخلاف الرواية- لا نعرف عنها شيئًا، وبدأ يطلبها، وهذا جيد”.

ياسر عبد اللطيف: ظهور الـ”نون فيكشن” سببه اليأس من الأشكال الأدبية

يدعم الكاتب المصري المقيم في كندا ياسر عبد اللطيف الـ”نون فيكشن” عبر إشرافه على سلسلة “بلا ضفاف” في دار الكتب خان. يقول: “أشرفُ أنها أصدرت عملي إيمان مرسال “في أثر عنايات الزيات” وشارل عقل “غذاء للقبطي”. تلك التجارب ستفتح بالتأكيد آفاقًا أوسع داخل الأشكال الأدبية الراسخة قصًّا وشعرًا، بعيدًا عن تكلس الصيغ الجاهزة المقولبة تجاريًّا؛ ويجب ألا ننسى أن ثورة قصيدة النثر في جوهرها تعد جنوحًا نحو تلك المغامرات، لكن بلغة أكثر كثافة”.

ياسر يظن أن ظهور هذا النوع من الكتابة له عدة أسباب: منها مثلًا الحاجة إلى وضع الخبرات الشخصية في موضع الفحص والتأمل، أو اليأس من الأشكال الأدبية المتفق عليها مدرسيًّا أو الزهد فيها نتيجة لتحولها الحثيث إلى “سلعة” دون وجود سوق عربية متسعة للكتاب تحتملها. عامل آخر هو القطع الفاصل بين عصرين الذي أحدثته الرقمنة، ليبدو القرن العشرين بعيدًا جدًّا بالنسبة إلى الأجيال الجديدة، فنشأت لديهم الرغبة في نبش تلك الذاكرة القريبة المتباعدة عن طريق الكتب التي تحمل خبرات إنسانية حقيقية وشهادات عن حقب لم يعيشوها تبدو لهم وكأنها من العصور الوسطى. ما يبدو أنّه انتشار لهذا النمط غير التخييلي مرةً أخرى الآن هو استعادة للّحظة ما قبل ظهور نمط الروائي المتخصص، ما قبل النمط المحفوظي، وهو يعكس أزمة بلغها هذا النمط، وإشكالية كبّلت الرواية العربية نفسها بها مؤخرًا؛ إذ تصرّ على تقديم نفسها كسلعة مُصنّعة بلا قيمة مضافة، في سوق شديدة الضعف. سلعة مخصصة للتصدير في الأساس دون حتى مُطابقة للشروط المعيارية للسوق الدولية.

يعطي ياسر نماذج للكتب التي يحبها من الـ”النون فيكشن”: “كتاب “الوليمة المتنقلة” لهيمنجواي، كتاب “ترحال” لهرمان هسه، كتاب “أعراس” لألبير كامو؛ ومن الكتابات العربية الكلاسيكية كلّ كتابات يحيى حقي والمازني غير القصصية تستحق الاعتبار، وفي الأجيال الأحدث أذكر كتاب “خطوط الضعف” لعلاء خالد فهو يمثل ربما إيقاظًا لتلك المغامرات السردية بعد طول سبات، وهناك أيضًا مغامرات الكاتب العراقي لؤي حمزة عباس كـ”كتاب المراحيض” و”كتاب الصور” وهي كتب فريدة، ومؤخرًا في مصر كتاب “النوم” لهيثم الورداني”.

وحول كتابه من هذه النوعية “في الإقامة والترحال” يقول: “كتبته في شكل نصوص كانت تنشر أسبوعيًّا في ملحق “شرفات” الثقافي بجريدة عُمان وباتفاق مع الصديق أحمد شافعي عندما كان محررًا بتلك الجريدة نحو عام 2012. وكان الاتفاق أن تُراكم تلك النصوص ما يصير كتابًا لاحقًا، وبالفعل تحولت تلك النصوص إلى كتاب. كنتُ أجرب أسبوعيًّا أن أندفع في مغامرة كتابية تكتمل بنيتها كقصة أحيانًا وأحيانًا أخرى تنحو نحو المقال الأدبي أو الحكائي، ولكنني أعتبر التجريب في هذا الكتاب وليد تلك المغامرة الأسبوعية، لا نتيجة تفكير مسبق في عمل متكامل، حظي الكتاب بقبول جيد من القراء، وبعضهم اعتبره من أفضل أعمالي، ولكنني أحتفظ بمشروعين جديدين على الأقل أحدهما شبه مكتمل”.

المنجم

ليلى المطوع: كتب السرد الفني كنزٌ غنيٌّ بالمعلومات للروائيين والباحثين

الكاتبة البحرينية ليلى المطوع ترى أننا نعاني في الوطن العربي من قلة التصنيفات، وهذه مهمة تقع على عاتق النقاد، لكن يقوم بهذه المهمة القراء على حسب ثقافتهم واطلاعهم على العمل. بالنسبة لها فإن الكتب غير الخيالية، أو ما تُسمى بالواقعية التي تتناول أحداثًا لوقائع أو شبه سير أو تتناول التغيرات الاجتماعية والفكرية والتاريخية كلها تعد كنزًا غنيًّا بالمعلومات. ليلى تشدها الروايات، لكن هذه الكتب لها أثر مختلف عليها، فهي منجم مهم لها كروائية، وتعتقد أنها نوع من سرد الأحداث لكن الكاتب لا ينجرف مع الخيال، يتكهن ربما، لكن من المهم أن يسرد الوقائع استنادًا إلى حقائق معينة.

وتقول: “هذا النوع من الكتب مصدر مهم للكتَّاب والباحثين، فحين توثق حدثًا، أو شخصية، أو فكرًا اجتماعيًّا يسود المجتمع ويتحكم بأفراده فترة ما، فأنت تترك أثرًا للأجيال القادمة لتستفيد من هذا الأرشيف الذي أرَّخ لنا وقائع مهمة، يتجه العديد من الكتاب والقراء، والفضول يحركهم لقراءة أنواع مختلفة من الكتب القيمة التي تضيف إلى ثقافتهم، رغم تسيد الرواية لسوق الأدب، واكتساحها أرفف المكتبات، إلا أن هذا الأدب له إقبال، وله دور نشر متخصصة في تقديم محتواه المختلف للقارئ العربي”.

من الأعمال الأدبية العربية التي قرأَتْها كتب المؤلف البحريني نادر كاظم، الذي سرد “تاريخ الأشياء” في كتاب يحمل نفس العنوان، ويعد أرشيفًا معرفيًّا للمهتمين بتاريخ المباني، فمن خلاله يتناول قصة أول مقبرة مسيحية، وتاريخ الوقت في البحرين وتغيره، والتغيرات التي طالت الجزيرة، ويستند إلى وثائق تاريخية ومعلومات قيمة نتيجة بحث ميداني وأكاديمي. ومن الكتب العربية التي نالت إعجابها، رحلة تقصي أثر الكاتبة الراحلة عنايات الزيات وحادثة انتحارها من قبل الشاعرة إيمان مرسال، وكذلك كتاب “الوعي وفلسفة الترميز” لجنان حلاوي الذي يروي فيه مراحل تطور وعي الإنسان ونشوء المجتمعات، وجميع كتب مصطفى حجازي ففيها توثيق للحالات الاجتماعية والفكرية الخاصة بالشعوب العربية، خاصة وقد كان مقيمًا في البحرين لفترة زمنية. وترى ليلى أنَّ للجوائز التي يحصل عليها الكتاب دورًا مهمًّا ومشجعًا للقراء على اقتناء العمل، وتزايد مبيعاته.

تقرأ ليلى حاليًا كتابًا من هذه النوعية هو “السطحيون وما تفعله شبكة الإنترنت بأدمغتنا” يسرد فيه الكاتب نيكولاس كار أثر التقنية على أدمغتنا ويتتبع أثره على أجيال أتت في عصر يشهد وفرة من تلك التقنيات الحديثة، ويأخذنا في رحلة لعالم التدوين والكتابة مستعرضًا تغير الدماغ البشري وقدرته على إعادة ضبط الدارات العصبية وفقًا لمحيطه. تقول أخيرًا: “أرى أنه من أهم الكتب بما أننا نواجه حاليًا برنامج الذكاء الاصطناعي الذي يعد سلاحَ خطرٍ، وأداة تعطل نمو الدماغ البشري”.

لؤي حمزة عباس: الكتابة في حدود النوع اختبار لا تتجلى حريةُ المؤلف إلا داخله

الكاتب العراقي لؤي حمزة عباس يقول إن “أشكال الكتابة الأدبية، الشعرية منها والنثرية، ليست نتاجًا ثابتًا في متحف نظرية الأدب، ولن تكون، إذا ما نُظر إليها من منظور التغيّر والتحوّل الكونيين، مسكوكاتٍ دائمةَ النقش أبديةَ القيمة، بل هي عرضة للتغيّر والتحوّل أسوة بكلِّ شيء، كلُّ استعمال للشكل الأدبي يجعله عرضةً للتغيّر، وكلُّ تغير اختبارٌ بطبيعته، أما الأشكال التي بقيت خارج الاستعمال، فهي الوحيدة التي حافظت على ثباتها بعيدًا عن فاعلية التغيّر واختبارات الحياة، وما المعرفة النظرية التي تفحص طبيعة الأجناس الأدبية، وتؤشر خصوصية النوع، وتسعى لبلورة محدّداته، إلا مقياس مرتبط بزمنيتين متفارقتين: زمنية النوع وزمنية النظرية، زمنية النوع هي الأفق الذي يتشكّل النوع بموجبه ويُقدِّم، في إطاره، صياغاته الإبداعية، وزمنية النظرية تكشف مؤدّياتها الفكرية وتشير لمسلّماتها المعرفية، وكلاهما مرتبط بوعي مرحلي متغيّر، تلتقي النظرية بالحياة فتتغيّر، ويلتقي النوع الأدبي بنفسه فيتغيّر”.

الكتابة في حدود النوع، بحسب لؤي، ليست سجنًا يحدّد مسار المبدع ويحدُّ أنفاسه، النوع اختبار لا تتجلى حريةُ الكتابة إلا بالعمل داخله، ويعلق: “مثل تلك الفكرة دعتني لتأمل العلاقة بين الحرية والنظام بمعنييهما الكليين، فوجدت الحرية خارج النظام قرينةَ الفوضى، ووجدت الحريةَ داخل النظام بابًا لكلِّ خلقٍ وابتكار، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى اختبارات النوع وتفحّص فاعليته، الأمر الذي ينعكس بدوره على حرية الكتابة التي لن تكون خلقًا وابتكارًا إلا حينما تتحقق داخل النظام لا خارجه. لنفكّر بكلِّ كتابةٍ نجحت في أن تختبر وجودها خارج النوعية، ولن نجد نموذجًا واحدًا، فيما أظن، كُتِبَ منفصلًا عن نظام النوع ومحدّداته. في مثل هذا التصوّر أنظر لبصرياثا محمّد خضيّر ولتجليات جمال الغيطاني بوصفهما اختبارًا لم تتهيأ له شروط النجاح لولا تجارب الكتابة السردية الطويلة المتأنية داخل النوع، ليحقَّ للكاتب، من بعد، أن يختبر فاعلية النوع خارج كلِّ ما هو قار وثابت في التجربة السردية، ويكون عبور الحدود، في النتيجة، ميثاقًا من مواثيق الحياة”.

الكتابة غير الخيالية

سعيد خطيبي: نهاية الرواية لن تكون سوى بيان هزيمتها إزاء هذا النّوع

ويمنحنا الكاتب الجزائري سعيد خطيبي سببًا آخر لشيوع الـ”النون فيكشن”: “مثلما نستورد التّكنولوجيا من أمريكا، فإننا نستورد منها بضاعتها الأدبيّة؛ فنحن سوق لما هو رائج خلف الحدود، وقد شاع في السّنين الأخيرة، ما يمكن أن نطلق عليه «الكتابة غير الخيالية»، هذا النّوع الأدبي الذي يقف على مسافة واحدة بين الصّحافة والرّحلة والتّخييل الذّاتي، من الممكن أن نعيد نشأة هذا النوّع إلى بداية القرن الماضي، لكن التحوّل الأكبر وسبب شهرته، بدءًا من أوربا ثم العالم العربي، بدأ في منتصف السّتينيات، عقب صدور «بدم بارد» للأميركي ترومان كابوتي. منذ ذلك الحين خرج «اللا تخييل»، من دائرة الاستصغار التي قابله بها النّقاد إلى نوع أدبي قائم بحدّ ذاته. كابوتي جعل منه خيارًا أقرب إلى القرّاء وكذلك النّقاد. إننا إذن نتحدّث عن واحد من أحدث الضروب الأدبية، لكن تكرّس هذا النّوع لن يتأتى سوى بعد نصف قرن من صدور «بدم بارد»، لم يعرف إقرارًا سوى عام 2015 حين حازت سفيتلانا أليكسيفيتش على نوبل للأدب، لم تكن «نوبل» لتلك الكاتبة وحدها بل تكريمًا لنوع أدبي داومت عليه طوال ثلاثة عقود”.

يضيف: “ثم تكرّس الإقرار العام الماضي حين كرّمت الأكاديمية السّويدية كاتبة فرنسية تكتب في النّسق عينه، نقصد: آني إرنو، إنّه زمن «اللا تخييل» إذن. إذا حصل وبلغنا ما يُطلق عليه -مجازًا- موت الرّواية فإن نهايتها لن تكون سوى بيان هزيمتها إزاء هذا النّوع من الكتابة، الذي كرّس منطقه ومكانته، في أوربا كذلك، ومن المنطقي أن يتوسّع عربيًّا. لكن تأخره في العالم العربي -كما نلاحظه- ليس يتعلّق بقلّة الموضوعات التي من الممكن أن نتحدث عنها في هذا الباب، بل يتعلّق بهامش الحرية. فاللا تخييل هو المعادل الموضوعي عما يتوافر عليه بلد ما من حريات فردية. مشكلة أخرى تقابلنا عربيًّا هي عدم الاتّفاق على تسمية الأشياء بمسمياتها، بين من يطلق عليه «أدب اللا تخييل»، «أدب تسجيلي» أو «أدب وثائقي». سوف نشرع في التّعامل معه بجديّة حين نتّفق على مسمّى له، وحين نتخلّص من الرّقابة الذّاتية قبل الإفلات من رقابة المجتمع والأوصياء على العقل”.

رائد العيد: التعويل على القالب لا ينفع مع القارئ الباحث عن خلطة الخيال والواقع

بدوره يمنحنا الكاتب السعودي رائد العيد سببًا جديدًا: “بالنسبة للكتّاب، أعتقد أن الاهتمام به ناتج من الرفض الحداثي للإطار والجنس الكتابي المقيّد، والرغبة بالتحرر الكامل من أي قوالب مسبقة تعيق انهمار الكلمات وانسياب الأفكار، التعويل على القالب لم يعد ينفع مع القارئ الباحث عن الدهشة المتجددة، وعن الخلط المحبب بين الخيال والواقع، بين الرواية والسيرة الذاتية، بين التأملات والاستعارات، وهو ما يسمح به هذا النوع من الكتابة أكثر من سواه، أما بالنسبة للناشرين فلست مقتنعًا إن كانوا على قناعة بهذا النوع، ومرحبين به على الدوام، فأغلب الناشرين لا زال مأسورًا بالشكل والقالب، حيث يتعمّد كثير منهم كتابة الجنس الأدبي على الغلاف وربما وهو لا يتفق مع مضمون الكتاب، كأن يكون الكتاب سيرة ذاتية ويُكتَب على غلافها رواية، أو يكون الكتاب نصًّا مفتوحًا ويجنّس على الغلاف بأنه رواية”.

فوز أكثر من كتاب من هذا النوع بجائزة الشيخ زايد في مسار الأدب خلال السنوات الأخيرة، بحسب رائد، تأكيد على علو كعب هذا النوع، وهي من الكتب اللذيذة للقارئ مثل كتاب “في أثر عنايات الزيات” المعجون بالتتبع الواقعي والبحث الاستقصائي والتجربة الذاتية والتأملات الشخصية والقراءات النقدية، بالإضافة إلى كتب عزت القمحاوي من هذا النوع وآخرها “الطاهي يقتل.. الكاتب ينتحر” والذي يجمع بين التأملات الذوقية في الأطعمة والقراءات النقدية المعمقة لكثير من الأعمال الأدبية. وأيضًا أعمال الفرنسي كريستيان بوبان وخاصة “اللامأمول” المنفتح على السرد الشخصي الحميمي مع النقاشات المعرفية الموسعة.

ويختم رائد حديثه قائلًا: “يأتي الإطار بعد الانتهاء من اللوحة، واقتناء اللوحة مؤطرة يعيق الذهن أثناء الرسم، كذلك الكتابة؛ اشتراطات الجنس الأدبي تحصر ذهن الكاتب في الانتباه لها والعناية بمتطلباتها المعقدة ويصرفه عن التفكير بالأفكار المراد مناقشتها. الكتابة منذ القدم كانت منفتحة الأفق، بلا قوالب جامدة ولا إطارات موحدة، حتى جاءت الأجناس الأدبية بصراعاتها في المرجعية والأهلية، لتأتي الحداثة الأدبية بعد ذلك وتدعو لكسر هذه الأجناس وتجاوزها”.

ألوان مختلفة

 

الكاتب والناقد المصري محمود عبد الشكور يعتقد أن الناشرين أنفسهم اكتشفوا أخيرًا أن هناك ألوانًا مختلفة بعيدًا عن الرواية، فعاد الاهتمام بالقصة القصيرة والشعر وعاد الاهتمام كذلك بطبع بعض دواوين الشعر والسير الذاتية وحققت هذه الأعمال نجاحًا كبيرًا. هي مسألة خروج، بالنسبة له، من دائرة مغلقة سجن الناشرون فيها أنفسهم، والأمر طبيعي جدًّا مثل أي مكان في العالم: لكل لون قارئ يبحث عنه ولكنه الكسل والاستسهال. ويعتقد أن الكتابة بلا ضفاف تثري السرد عموما، وتفتح آفاقًا واسعة للتجريب، وتخرجنا من مسألة النوع الأدبي الواحد كما تشجع على ظهور مواهب حقيقية في الكتابة. يقول: “أتمنى أن يستمر ذلك ويُشجَّع بجوائز خاصة تُمنح لهذه الكتابات مثلما تمنح جوائز للرواية والقصة القصيرة”.

عبد الشكور يعتبر كتب الدكتور محمد أبو الغار عن المنسي في التاريخ المصري من أجمل النماذج في هذه النوعية مثل قصة “الفيلق المصري” الذي شارك في الحرب العالمية الأولى وهو من تلك النوعية البعيدة عن الخيال والشائقة جدًّا، وكذلك كتابه المهم عن “وباء الإنفلونزا الإسبانية”.

مصطفى النفيسي: الكتابة بلا ضفاف تُدخِل القارئ في تمرين

من جهته يقول الكاتب المغربي مصطفى النفيسي إن “الكتابة بلا ضفاف” من الأنواع القريبة إلى قلبه، فهي كتابة مختلطة بالفلسفة، والأنثربولوجيا، والشعر، والقصة، والنثر، والخبر. هذا النوع من الكتابة يمنح للسارد آفاقًا أوسع للتعبير، حيث لا ينحبس في جنس بعينه، بل يقيم جسورًا بين الأجناس كلها، ومن ثم فهو يخرج السرد من قالبه التقليدي إلى فضاءات تُدخِل القارئ في تمرين طيلة فترة القراءة. كما أنها كتابة تمتح بالأخص من منبع فلسفي يجعلها تخلخل أفكار القارئ مستفزة إياه بأسئلة مليئة بالحكمة.

وبحسب النفيسي تُقبل دور النشر على نشر هذا النوع من الأدب لتطوير الذائقة الأدبية، والبحث عن قراء جدد، والخروج من نمطية السرد. ويلفت الانتباه إلى تجربة دار الكتب خان بالقاهرة التي وضعت سلسلة لنشر التجارب الأدبية الخارجة عن التصنيف هي “بلا ضفاف”، وقد بدأت هذه السلسلة بنشر كتاب المصري شارل عقل “غذاء للقبطي”، وهو كتاب يعتمد على ما هو أنثربولوجي، ويعتبر بمثابة سفر في الثقافة القبطية.

ومن بين الأعمال التي وقعت بين يديه، وقرأها بشغف كبير، “رسالة الغفران” للمعري. لكن الكتاب الذي سيطر عليه هو “وصفات لنساء حزينات” للكولومبي هكتور أباد، والمكتوب بلغة شعرية جميلة، حيث يتخذ من وصفات سحرية وغريبة حلولًا لإخراج النساء من كآبتهن. يقول: “إنه عمل لا هو بالرواية ولا هو بكتاب للطبخ، كتاب مليء بالحكمة والتوجيهات العميقة للإنسانية، وذلك لإخراج الإنسان المعاصر من مأساته التاريخية”.

تغيرات تقنية

محمد أبوزيد: صعود هذا النوع من الكتابة جاء بسبب ظهور المدونات الشخصية

الشاعر والروائي المصري محمد أبوزيد يرى أن هذا النوع من الكتابة يمكن تتبعه في أشكال مختلفة عبر مسارات التاريخ، في أنواع محددة مثل “أدب الرسائل”، أو السير الشعبية التي كان يتداخل فيها الشعري مع السردي مع الموعظة مع الخيال مع الواقعة التاريخية، أو حتى “أدب الرحلات” بتنويعاته المختلفة، أو حتى كتب “تجميع المقالات” ذات الاتجاه الفكري الواحد. لكنه يعتقد أن صعود هذا النوع من الكتابة خلال السنوات الأخيرة جاء بسبب التغيرات التقنية التي صاحبت الكتابة في انفتاحها، فقبل حوالي عقدين تقريبًا مع ظهور ما يعرف بالمدونات الشخصية، اتجه إليها عدد كبير من الأشخاص الذين وجدوا أن بإمكانهم التعبير عن ذواتهم وعن هواجسهم بطريقة أخرى غير الطرق التقليدية المعتادة في الصحف بالمقالات والتقارير الصحفية، أو في الأدب بالشعر والرواية والمسرح. ووجدوا أن ما يكتبونه من كتابة بلا ضفاف يجد صدى كبيرًا لدى جمهور ناشئ يشبههم ويشترك معهم في ثقافتهم، وهو ما دفع عددًا من دور النشر إلى طباعة هذه “الكتابات”، ومع انفجار مواقع التواصل الاجتماعي أصبح التعبير متاحًا للجميع، بأي وسيلة ممكنة، وساهم هذا في ظهور نوعيات مختلفة من الكتابة، احتاجت فترة زمنية حتى تتبلور، وتجد جمهورها، وتطرد الغث وهو كثير.

ويقول أبوزيد: “إذا تحدثنا عن علاقة هذه النوعية من الكتابة بالأدب، فلا بدَّ من أن نربطها بتطور الكتابة نفسها، وهو أمر ضروري، وبنظرياتها ذات الصلة، مثل الكتابة عبر النوعية، وتداخل الأنواع الأدبية وغيرها”، ويختم بالإشارة إلى أن أفضل كتاب قرأه في هذه النوعية، هو كتاب ميلان كونديرا “الوصايا المغدورة”، وهو واحد من ثلاثيته عن فن الرواية، حيث يقدم من خلاله دراسة نقدية على شكل رواية تتلاقي فيها شخصيات كبار الكتَّاب.

فهد العتيق: هذه النوعية لا تلفق أحداثًا ولا تخترع حكايات

أما الكاتب السعودي فهد العتيق فيقول: إن قيمة مثل هذا النوع من الكتابة الأدبية القريبة من الواقع، أنها في الغالب لا تبحث عن موضوع؛ موضوعها وحكاياته يفرض أسئلته على الكاتب ويحرضه على الكتابة، هي كتابة يحبها القراء والناشرون بسبب قرب موضوعاتها الإنسانية الواضحة والمشوقة من مزاج القارئ، فهي تتضمن تتبع سيرة الإنسان والموضوع والزمان والمكان والحكايات. يعلق: “أتذكر بهذه المناسبة أن الكاتب والناقد السعودي سعود السويداء قرأ قبل عدة سنوات بعض الروايات لكتاب معروفين وكتب مراجعة نقدية عنها في مقال واحد بعنوان: (ست روايات تبحث عن موضوع). وكنا نشعر فعلًا بهذا في كثير من الروايات التي قرأناها، أقصد أنها متكلفة وتلفق أحداثًا وتخترع حكايات، وما كتبه سعود يمثل وجهة نظر كثير من القراء على موقع “جودريدز”. لكن هذه الكتابة الواقعية الجديدة “نون فكشن” ممتعة ومبدعة وهادئة وفيها القيمة والمعنى وموضوعها الأدبي والإنساني واضح وصريح في الغالب”. ويقول: “أشعر أن حياتنا الأدبية تحتاج لهذا بعد تجربة سنوات طويلة مع نمط متكرر من كتب وقصص وروايات أدبية تبالغ في الخيال والكتابة الذهنية السريعة، وتتكلف في اختراع الموضوعات والحكايات العابرة التي لا تمكث في ذهن القارئ طويلًا”.

ويرى العتيق أن الحياة الأدبية الآن تراجع نفسها من خلال فن الكتابة الأدبية وتتقبل النقد لتجدد مساراتها الأدبية وتنوِّع طرائق التعبير الأدبية. لافتًا إلى أن كتابة الـ”النون فيكشن قد يكون من أهم أسباب الإقبال عليها طبيعتها الممتعة والمشوقة، بالذات إذا تمت كتابتها باللغة الأدبية الرفيعة والسلسة والممتعة، وقال إن من أفضل الكتب التي قرأها في السنوات القريبة الماضية “في أثر عنايات الزيات” للشاعرة ايمان مرسال: “هذا الكتاب الأدبي الروائي الرفيع أعاد روح الأدب الممتع إلى حياتنا الأدبية، قرأت هذا الكتاب وشعرت أنه رواية حديثة بكل ما تحمله كلمة رواية من معنى وقيمة فنيًّا وموضوعيًّا على مستوى اللغة السلسة والممتعة، وعلى مستوى الأسلوب الحديث في التناول وعلى مستوى تنامي الأحداث. رواية جديدة وحديثة لم تخترع شخصيات ولا أحداثًا، ولم تبحث عن قضية كبيرة للكتابة عنها. كتاب بسيط وعميق في آن واحد ليس فيه شبهة صنعة أو تكلف أو مبالغات خيالية. وهذا النوع من الكتب يذكرني بكتب أدبية رفيعة المستوى لكاتبنا الراحل الكبير إبراهيم أصلان مثل “خلوة الغلبان” و”شيء من هذا القبيل” وكذلك “مع أطيب ذكرياتي” وهو الكتاب الأخير للكاتبة الفرنسية فرانسواز ساغان”.

عثمان الشيخ: “مرايا” نجيب محفوظ أكبر وأهم نموذج للكتابة بلا ضفاف

ويلفت الكاتب السوداني عثمان الشيخ إلى عبارة صارت قانونًا بالنسبة إليه هي “الواقع أشد إدهاشًا من المتخيّل”. يقول: “إذا قابلت شخصًا في مكان ما، وليكن رفيقًا في مطار أو قطار، وانفتح باب الحكي بينكما؛ بلا شك سيحاول أن يقدّم نفسه لك بطريقة مختلفة، وسينتخب من حياته قصصًا وحكايات قد لا تسمعها في مكان آخر. ضع في حُسبانك أنك لو انتقلت إلى الشخص المقابل لكما أو الذي يجلس خلفكما فستختلف الحكايات وسترتفع الدهشة. هؤلاء ليسوا بكتَّاب أو شعراء؛ إنهم يمتلكون حس حَكي فطري ينطلق من واقعهم اليومي والعادي، لذلك تبدو سردياتهم وحكاياتهم أكثر دهشة وإلهامًا من الحكايات المصنوعة والمُرتّبة”.

منذ بدء تشكّل الوعي عند عثمان؛ ألهمته حكايات الناس وقصصهم وتجاربهم. وعندما انتقل إلى القراءة اجتذبته كتب السيرة الذاتية وصولًا إلى الكتابة الواقعية التي تتخذ من حياة الأشخاص عمودًا لنسج الحكايات. ولعل كتاب “المرايا” للكاتب المصري العظيم نجيب محفوظ من الكتب التي قرأها باكرًا ولا يزال يتلذذ بمقاطعها بين الحين والآخر، وهي أكبر وأهم نموذج لمثل هذه النوعية من الكتب.

** المصدر: مجلة الجسرة الثقافية. العدد: 62

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى