أنتِ جسد

الخوف منه وعليه!

شيرين أبو النجا

 

جملة ركيكة: الخوف شعور انساني مشروع يشترك فيه الجميع (رجال- نساء- أطفال- عجائز).

جملة كيتش: لدى النساء خصوصية في أشكال الخوف لأن المرأة ليست كالرجل (ألا يكرر بوق المجتمع ذلك؟).

 الحقيقة: البعد البيولوجي المتمثل في الجسد هو الذي يجعلني امرأة …الجسد يمنحني وجودا ومساحة كبيرة من الهوية. الجسد هو التعبير عن الأنا، ولأن الجسد حدث فلا يمكن تحديد مخاوفه بشكل منعزل عن السياق الذي يتحرك فيه ويتفاعل معه. 

جسد المرأة له مقاييس جمال مُعلنة لكنه يخفي المرض والعورة والفتنة والشر والنميمة والفضيحة، والذنب، والنميمة، والعار

جسد المرأة له مقاييس جمال مُعلنة لكنه يخفي المرض والعورة والفتنة والشر والنميمة والفضيحة، والذنب، والنميمة، والعار. جسد الرجل ليست له مقاييس جمال سوى قدرته على اعلان القوة البدنية التي تُمكنه من رفع الأثقال وتأديب النساء والشجاعة في الحروب والقدرة على القتل وربما اغتصاب النساء والفحولة التي تساعده على تخصيب جسد النساء وأحيانا الجمع بين أكثر من امرأة.

تُكتب مخاوف النساء على خارطة الجسد، خارطة لها مفتاح خاص حيث يتم تحديد مواقع الألم ومواقع الوصم والنبذ ومواقع الفضح، والابتزاز، والعقاب، والقتل. يتوجب على جسد المرأة أن يلبي شكله توقعات السياق الاجتماعي، وأي مخالفة لهذه التوقعات تستدعي التعامل معه بحذر، وريبة، وتساؤل، وشك.

في شهادتها التي قدمتها عام 2021 تقول رشا عزب: ” فرضت طبيعتي الجسدية علاقة خاصة مع المحيط الاجتماعي الذي عشت فيه، جسدي هو السور العالي، الذي اختبأت خلفه، ممتنة له في كل مراحل حياتي، رغم الصدمات التي تلقاها نيابة عن عقلي وقلبي”، وشعور الامتنان هو ما تعلنه بعد عشر سنوات استوعبت فيها ما كان يحدث: ” صوتي معركة دائمة. في المراهقة، جرت تحولات متوقعة في طبقة صوتي، لم أدركها بالطبع، لكن الأهل انزعجوا من هذه الطبقة الصلبة التي لا تليق بفتاة. مارست حياتي بعفوية، جسد ينمو بضخامة وصوت يُدوي بصدى مستفز، اضطروا إلى استشارة العلم والذهاب إلى الأطباء المتخصصين في مجال الأحبال الصوتية…”. (مدى مصر، يناير 2021).  ذلك الصوت لم يشبه الصوت الأنثوي الذي يتلهف الرجال على سماعه. استدعى صوت رشا استشارة طبيب وكأنه علة أصابت الجسد، علة تتطلب علاجا. لم ينقذ رشا سوى انغماسها في القراءة وحب الفن وهو ما لم يتوافر لنفيسة في رواية “بداية ونهاية” لنجيب محفوظ، “كان لها هذا الوجه البيضاوي النحيل، والأنف القصير الغليظ، والذقن المدبَّب، إلى شحوب في البشرة واحديداب قليل في أعلى الظهر”، ساهم شكل نفيسة المتواضع دراميا في تحولها إلى أرخص أنواع البغاء- أو أن محفوظ ارتأى أن هذا هو الطريق الوحيد المتاح لها.

اختلاف مقاييس شكل الجسد عن المقاييس الصارمة التي يضعها المجتمع لن يمر دون عقاب في الواقع والمتخيل، وهو محور أساسي في قصص الأطفال، حيث يرتبط جمال وبياض سنووايت بالطيبة والهدوء ويرتبط قبح زوجة الأب بالشر والقسوة. لكن تلبية التوقعات من ناحية مقاييس الجمال له العقاب الخاص به أيضا، فقد كانت فاطمة في “حادثة شرف” ليوسف ادريس أجمل بنات العزبة ولذلك كانت تهة اجتماعها بغريب تلائم شكلها، وكان أهل العزبة- الطيبون- “خائفين عليها من العيب وكأنهم لا يصدقون أن أنثى جميلة مثلها ممكن أن وجد ولا ترتكب العيب”. وفي مشهد شارك فيه كل أهل العزبة خضعت فاطمة لكشف العذرية.

التناقض هو ما يحكم الرؤية لجسد النساء، الخوف منه والخوف عليه. لا يمكن التنبؤ بما قد يتسبب فيه الجمال، فهو أحيانا رأسمال رمزي وأحيانا تهمة ضمنية تساهم في ترسيخ حكم الإعدام كما حدث لريحانة الإيرانية التي اتهمها ضابط بضربه. فكتبت لأمها خطابا أخيرا قبل تنفيذ الحكم عام 2014 وقالت: “لم يساعدني أحد وأنا تحت ضربات المحقق وأسمع أحط درجات السباب. وبعد أن تخلصت من باقي علامة الجمال الباقية في جسدي أعطوني مكافأة 11 يوما في الحبس الانفرادي. …لا تبكي على ما تسمعيه مني الآن، في أول يوم لي في مركز الشرطة عنفني ضابط كبير السن أعزب بسبب أظافري، عرفت يومها أن الجمال ليس من سمات هذا العصر. جمال المظهر، الأفكار والرغبات، جمال الخط، جمال العين والرؤية ولا حتى جمال الصوت الجميل“.

على جسد النساء أيضا أن يدفع أثمانا باهظة لقاء نزوات الرجال، فهناك رجل يرتكب جريمة بحق امرأة ليقوم رجل آخر بقتلها بدعوى حماية الشرف. وبالرغم من أن رواية “دعاء الكروان” لطه حسين قد صدرت عام 1934 ومثلها “البوسطجي” ليحيى حقي إلا أن هناك آلافا مثل هنادي وجميلة يُقتلن يوميا، حيث يتحول القاتل إلى بطل قام بتأدية واجبه وغسل “العار” الذي كاد أن يلوث شرف العائلة. بذلك تثبت العائلة تبرؤها من تلك الابنة الضالة التي خرجت عن المنظومة. وهو نفس النهج الذي تسير عليه الأنظمة السياسية التي تؤمن أن عليها حماية جسد النساء المسؤول عن إنجاب رجال للوطن، فعقاب النساء عند المشاركة في الأحداث السياسية هو التحرش أو الاغتصاب، وصم الجسد، انتهاكه، التحقير منه، أو الكشف على عذريته، في حين أن الرجل يتلقى العقاب النمطي (سجن، تعذيب…)، تعود المرأة موصومة ويعود الرجل بطلا.

 

 

جسد النساء هو “مصنع الرجال” فلا يمانع فقهاء السلطان من تسهيل زواج فاطمة من العمدة بعد تطليقها من زوجها عنوة في فيلم “الزوجة الثانية” (1967). في سبيل تحقيق رغبة العمدة في إنجاب ذكر يرثه يُمكن فعل أي شيء. بسهولة يمكن نقل السلعة/ الجسد من زوج إلى آخر، تماما كما كان يحدث مع الايزيديات. تنتقل السلعة من ملكية لأخرى بعقد الزواج (أو بدونه)، ما يهم أن الاستحقاق الطبيعي هو ما يحكم هذا التبادل السلعي. ولذلك ليس مقبولا أن يتمرد هذا الجسد أو يرفض أو يختار أو يفكر أو يحب أو يكره. العقاب الجسدي والنفسي والمجتمعي مؤلم وغير محتمل ولا يمكن التمرد بدون اللجوء إلى قوى خفية كالجن مثلا. فإذا أرادت المرأة أن تنفصل عن زوج لا تطيقه تدعي أن هناك جن في جسدها وقد أحبها وتزوجها…إلى آخر ذلك من القصص المعروفة والمنتشرة في الأرياف. وفي كتابها “جسد المرأة بين سلطة الانس والجان” (1995) قدمت حياة الرايس دراسة عن الريف التونسي ولجوء النساء إلى هذا الأمر، فالمرأة التي لا تملك قرارها ولا جسدها “تستطيع امتلاك علاقة حرة تماما مع الجني”.

يعرف الأعداء أيضا أن جسد النساء تابع للرجال وللمنظومة الأبوية، وهو ما يفسر ظاهرة الاغتصاب التي تقع أثناء الحروب والاحتلال كما وصفتها بدقة عدنية شبلي في روايتها “تفصيل ثانوي” (2017) وعائشة البصري في “الحياة من دوني” (2018). تعود الظاهرة إلى أزمان قديمة حيث كان سبي النساء هو أحد علامات الانتصار الذكوري القبلي. فالسيطرة على الجسد ثم انتهاكه هي المعادل الموضوعي لهزيمة الآخر الذي يرى بدوره أن شرف الرجال يكمن في جسد النساء ليس من باب احترام هذا الجسد لكن من باب امتلاكه. ويعرف الحكام أن أول علامة لإعلان السيطرة تبدأ من النساء، وهو ما فعلته طالبان عندما استردت السيطرة على أفغانستان التي تم غزوها عام 2001 بحجة الدفاع عن النساء الأفغانيات كما قالت لورا بوش. وعليه لم يكن غريبا أن تنتقل المعركة الأيديولوجية بين إيران وأمريكا إلى مجال الدُمى، فتقوم إيران عام 2008 بحظر بيع دمية باربي وتنتج بديلا لها وهي الدمية سارة (وقريبتها دارة) التي ترتدي التشادور.

الجسد هو التعبير عن الأنا، ولأن الجسد حدث فلا يمكن تحديد مخاوفه بشكل منعزل عن السياق الذي يتحرك فيه ويتفاعل معه

أجساد النساء- إلى أن تصبح أجسادا إنسانية- هي أكبر مصدر للخوف منها وعليها. وكما تقول ديمة ونوس في روايتها “الخائفون” (2017): “ليس للخوف صورة واحدة أو معنى واحد إلا ان ذلك الخوف من الخوف يتشارك أصحابه الطريق ذاته”.

** المصدر: مجلة الجسرة الثقافية. العدد: 62

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى