ممَّ لا يخاف الغريب؟

عمر قدّور
Latest posts by عمر قدّور (see all)

اختفى إيقاع الروك الذي كان يأتي من الجوار، توقّفتْ عن سماعه على نحو شبه كليّ الشابتان الأوكرانيتان اللتان أتتا لتسكنا ملاصقتين لسكني. كان مالك المبنى قد أخبرني قبل شهور بقدومهما لاجئتين من الحرب في بلدهما، وربما كاحتفال بنجاتهما كانتا تستمعان إلى أغنيات يهيمن عليها إيقاع الروك ذاته، وبصوتٍ عالٍ أخالُ معه أحياناً أن أحداً ما يضربه في رأسي. كنت أستطيع الطلب منهما جعل الصوت منخفضاً، لكن تغلَّب عليّ تضامني معهما كناجيتين، بل خطر لي أنني سأخيفهما لو طرقتُ بابهما لأطلب منهما تخفيض الصوت، إذ ليس من المستبعد إطلاقاً أن يخاف اللاجئ المستجدّ من طرقة غير متوقعة على الباب أو رنين غير منتظر للجرس.

لم يكن إيقاع الروك ليخفي دائماً أصوات الشابتين، فأحياناً كان صوتاهما يعلوان عليه، وعلى نحو خاص في العديد من المرات علت عليه ضحكات قوية فاقعة، ضحكات بدت لي هستيرية نوعاً ما. وعندما خفَتَ صوت الروك راحت الأصوات تصبح أوضح، ولا أظنه خفت بسبب احتجاج من أحد الجيران؛ أعتقد أنهما طوعاً كفّتا عن الاستمتاع بذلك الصخب الزائد. بل صرت متأكداً من ذلك، إذ تواترت في غضون الموسيقى الخافتة نوبات بكاء هستيري، ربما تناوبت الشابتان عليها، وربما ساهمت واحدة منهما بنوبة ضحك من الطينة نفسها.

في الأيام الأخيرة، حينما صمتت الموسيقى الصاخبة تماماً، بدا لي الصمت موحشاً ومخيفاً. لقد كنت أغبط الشابتين على قدرتهما على التعبير بذلك الإيقاع المرتفع، بتلك الضحكات الفاقعة، وحتى بذلك البكاء الهستيري. كنت أقول لنفسي أنه اختلاف الطبائع بين الشعوب، يجعلهما تعبّران عن كل طور بضوضاء، ومن دون كبت مشاعرهما على النحو الذي تفعلها غالبيتنا العظمى، نحن الآتين من الشرق.

الآن يقطع الصمت هديرُ طائرة تحلّق منخفضة، أغلب الظن أنها طائرة مدنية؛ أقول هذا لنفسي، ولا أدري ما هو ردّ فعل الشابتين القادمتين من أجواء الحرب، حيث لا أستبعد أن تكونا قد نجتا من غارة بالطيران. هذا خوف من شبه المؤكد ألا يزول سريعاً، أنا مثلاً فوجئت بانزعاجي من صوت الطائرات التي تؤدي عرضاً في سماء لمناسبة العيد الوطني الفرنسي. بدأ الأمر أولاً بسماعي هديرها “المخيف” قبل إدراكي أنه العرض السنوي المعتاد، ثم مشاهدتي بعض منها من النافذة وهي تنفث ألوان العلَم الفرنسي. كنتُ لحظتها، بعد ثماني سنوات من مغادرتي سوريا، أتذكّر الطائرات الحربية التي تقصف أحياءً مجاورة في دمشق انتقاماً من ثورة الأهالي على الطاغية.

كنت أستطيع أن أطلب منهما جعل الصوت منخفضاً، لكن تغلَّب عليّ تضامني معهما كناجيتين، بل خطر لي أنني سأخيفهما لو طرقتُ بابهما

ربما كان الخوف من هدير الطائرات مقتصراً على أولئك اللاجئين من فظاعة القصف، لكن أتوقع أن نسبة أكبر بكثير منهم تحتوي على أولئك الذين يخافون من البوليس، لا لذنب ارتكبوه سوى أنهم ولدوا في بلد يستطيع فيه رجل البوليس التنمّر على البسطاء المساكين، بل قد يستطيع الافتراء على ضحية منهم بتهمة ما. سمعة رجال البوليس ليست حسنة في معظم بلدان العالم، أما الخوف منهم فيحمله معه اللاجئ، ومن المرجّح أن يستغرب مثلاً مشهدَ متشرّد يجادل رجل البوليس الذي يريد منعه من النوم في مكان، ويُضطر فيه الثاني إلى التحلي بالهدوء والصبر والابتسام وهو يقول أنه يُنفّذ القانون لا غير. أيضاً، قد يحتاج اللاجئ وقتاً من التفكير كي يستدرك خوفه من كلمة “القانون”، ويتذكّر أنها تتضمن حقوقاً له، وأنها ليست مرادفة فقط لما هو مُكرَه عليه، وليست بطبيعتها مؤدّية إلى العقاب!

ليس القانون وحده كلمة مرذولة، بل هناك “البيروقراطية” أيضاً، وسمعة الأخيرة سيئة في عموم العالم، بل هناك شكوى لدى كثير من الشعوب التي يرى كلّ منها أن نظامه البيروقراطي هو الأسوأ عالمياً. هذه الماكينة البيروقراطية سرعان ما تصبح مصدر رعب للّاجئ، فهو من المرجّح ألا يعرف جيداً وسيلتي دفاع ضروريتين للتقليل من أضرارها. ثمة أولاً حاجز اللغة، وما قد لا يظهر منه في الحياة الاعتيادية ربما يظهر هنا من خلال مفردات إدارية لا يتقنها الغريب. ثم هناك القوانين الإدارية، وأبسط منها تلك القواعد والبروتوكولات التي لا يعرفها لأنه لم ينشأ أصلاً عليها، ولا يُستبعد أن يكون قد نشأ في بلد ليس فيه تقاليد بيروقراطية على الإطلاق.

يخاف اللاجئ من ألا يحسن شرح طلبه أو مشكلته أمام تلك الموظفة الدمثة المبتسمة، والتي قد ترتكب خطأ لأن أي موظف معرّضٌ للخطأ، أما في حالة اللاجئ فالخطأ سيزيد مشقّته الأصلية مشقّةً. ولن يكون الوضع أفضل مع التطور التكنولوجي والعمل عن بعد، ففي النهاية ستُفضي المراسلات إلى موظفين لن يكونوا أكثر تفهّماً، ومع عدم اضطرارهم إلى الابتسام لعدم وجود صاحب العلاقة أمامهم يُتوقّع أن يفقد البعض منهم روح التعاطف التي يستثيرها وجهٌ شاكٍ. يقول صديق أقام في فرنسا منذ أتمّ دراسته الجامعية فيها أنه يخاف حتى الآن عندما يفتح صندوق بريده ويرى فيه رسالة، إذ على الأغلب ستكون رسالة رسمية، وسيتوجب فعل شيء ما، أو معالجة مشكلة أو خطأ ما سابق.

في الأيام الأخيرة، حينما صمتت الموسيقى الصاخبة تماماً، بدا لي الصمت موحشاً ومخيفاً

الخوف من البيروقراطية قد يهون إزاء خوف الغريب من المرض، ففي هذه الحالة ينبغي أن يكون قادراً على شرح حالته جيداً للطبيب في العيادة أو في المستشفى. يجب أن يفهم جيداً الأسئلة، التي مهما حاول الطبيب تبسيطها، لن تخلو من مفردات خاصة بالمهنة، وأن يكون قادراً على الرد وهو مدرك بدقة ما يقوله، فالخطأ هنا مكلف رغم أن احتمالاته ضئيلة جداً. قد يعيش اللاجئ حياة بأكملها من دون أن يحتاج لمرة إلى طلب الإسعاف، لكنّ هذا لن ينجيه دائماً من خاطر اضطراره إلى ذلك، وأنه في تلك اللحظة الحرجة قد لا يتصرف على نحو مناسب لها؛ يخاف اللاجئ من أنه قد لا يتمكّن من الاستغاثة “لنفسه أو لمقرّبين منه” جيداً بلغة البلد الجديد. قد تحضر للمقارنة، وعلى سبيل الفكاهة، أن معرفة اللاجئ بالاستغاثة في بلده الأم قد لا تنجيه أيضاً، فهناك قد لا يكون من أحد ليردّ على رقم الطوارئ.

بين ثنايا ما سبق، وسوى ذلك من مخاوف مشتركة أو خاصة، يبرز الخوف من العنصرية، أو من كراهية الأجانب. في فرنسا مثلاً نالت مرشّحة اليمين المتطرف في انتخابات الرئاسة الأخيرة حوالى ثلث الأصوات، وهؤلاء ليسوا جميعاً من كارهي الأجانب، وقد لا يكونون جميعاً عنصريين في حيواتهم اليومية. إلا أنها نسبة مرتفعة، وإذا كان نصفهم على الأقل من المتطرفين فعلاً فهذا النصف موجود في الحياة اليومية للاجئين، وقادر على التنغيص عليهم بما لا يقع تحت طائلة المحاسبة.

من هذا الخوف من العنصرية ينبع خوف آخر، هو الخوف من الجماعة التي ينتمي إليها اللاجئ، سواء كانت الجماعة الأصغر أو الأكبر. يخاف اللاجئ السوري مثلاً أن يرتكب لاجئ سوري آخر جريمة في بلد أوروبي، فتصبح الجريمة وصمة للسوريين جميعاً، مع أن الأوروبيين “كأفراد” يرتكبون الجرائم في بلدانهم، وكذلك هو حال السوريين في بلدانهم. مع الخوف من العنصرية، تصبح جريمة الفرد وصمة للجماعة كلها، وهكذا يصبح الفرد ممثلاً للسوريين أو المصريين… إلخ، وبتعميم أوسع يصبح ممثلاً للمسلمين، وعلى جميع المتشاركين معه في هذا المنبت تحمّلَ قسط من المسؤولية. الجالية التي ينتمي إليها اللاجئ، والتي هي بالمفهوم التقليدي يُفترض أن تكون له عوناً في غربته، هي أيضاً بمثابة تهديد له خاصةً مع تنامي موجات معاداة اللاجئين في الغرب.

سمعة رجال البوليس ليست حسنة في معظم بلدان العالم، أما الخوف منهم فيحمله معه اللاجئ

ولعل تلك الموجات المتصاعدة تعيد اللاجئ إلى خوف هو من السمات الأصيلة للبلد الأم؛ إنه الخوف من المستقبل. ثمة فكرة شائعة في مجتمعاتنا عن انصراف الغرب إلى المتع والملذات، وهي صحيحة نسبياً وعموماً إذا أضفنا إليها العمل الفعلي بجدية. جزء من الاستمتاع يعود لأسباب ثقافية لسنا في وارد تفنيدها الآن، وجزء يعود إلى انتفاء الخوف من المستقبل، وانتفاء الحاجة إلى ذلك النمط الادخاري واعتباره قيمةً يُحتذى بها. يلزم للاستمتاع اليوم قناعةٌ بأنه، في أسوأ الأحوال، لن يجد الشخص نفسه مرمياً أعزل تماماً، والقناعة بأن هناك مؤسسات وجمعيات ودولة للعناية به إذا عجز عن ذلك مستقبلاً.

مما سبق أيضاً يتولّد خوف اللاجئ من التكنولوجيا، فالأخيرة في المستقبل القريب قد تؤجج مشاعر الكراهية للاجئين الذين يزاحمون “أبناء البلد الأصليين” على فرص العمل. بالقرب من مركز جورج بومبيدو في قلب باريس تستطيع ارتياد مطعم صغير للبيتزا، العاملون فيه آلات تختار بها نوع البيتزا المفضّل وتدفع الثمن، وروبوتات تحضّر البيتزا وصولاً إلى تقطيعها وإعطائك إياها. في باريس أيضاً هناك خطّا مترو من أصل أربعة عشر يعملان بلا سائقين، وقد لا يتأخر اليوم الذي تنقرض فيه مهنة سائق المترو، بل تنقرض فيه الكثير من المهن مقابل كثرة من العاطلين قسراً عن العمل، ونسبة غير قليلة منهم سوف ترى المشكلة في اللاجئين المنافسين في سوق فرص العمل الشحيحة.

صدر حديثاً كتاب بالفرنسية بعنوان طريف هو: نعم، يوجد لاجئون سعداء في فرنسا. الكتاب من تأليف السوري ماهر أختيار والفرنسي نيكولا دو لوكور، وهو يرصد قصصًا ناجحة للاجئين سوريين في فرنسا. إلا أن أول ما يحيل إليه العنوان هو أن العكس تماماً هو السائد، وأن قدَر اللاجئ ألا يكون سعيداً، وحسبما نرى فإن ما ينتقص من إمكانيات السعادة ليس النقص في النجاح، بل الوفرة في المخاوف التي تحيط باللاجئ، بما فيها المحمولة معه من البلد الأم. ومثلما يصبح التأكيد على وجود لاجئين سعداء تأكيداً على الندرة ثمة خشية من طغيان المخاوف بحيث لا يكون السؤال عمّا يخشى منه الغريب، بل يصبح: ممّ لا يخاف الغريب؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى