عن الكتابة والخوف و”الكليشيه”

“الكليشيه” مريح، كأنه محطة حافلات ذات كرسي رخامي، تستريح عليها من عناء المشي، وتوهم الآخرين أنك تنتظر حافلة بعينها، دائما ما تتأخر. هذا ما كنت أفكر فيه، في عام 1996،  وأنا أكتب قصيدة (لا أزال أحبها) من ديوان “أسئلة معلقة كالذبائح”، استغرقت أسبوعا بكامله ، على غير عادتي في ذلك الوقت، لكي أتمها، لا لشيء إلا لأنها امتلأت بالكليشيهات، تركتها، حتى أستمر في الكتابة، ووضعت تحتها خطوطا، واستغرقت الأسبوع في تقشير الكليشيهات، حتى تشبهني.  في ذلك الأسبوع كنت أروح وأجيء، أقابل الأصدقاء، أو أمارس طقوسي المعتادة، مشغولة الذهن تماما، في طمس معالم عبارات من مثل: “تفجر الجسد”، ..إلخ. لم يكن لدي إلا هدف واحد، استنزفني تماما، أن أكتب بجسدي كله، أن أدفع بحواسي كلها في وقت واحد، وأن يذوب عقلي، محاذيري، خوفي، في لغة، ألمسها، أحسها، أضعها على جلدي، وأستشعر حرارتها، وأن أصل بها إلى ذروة شبق، يعاود تأججه، كلما ارتوى. أتممت القصيدة، لم أقرأها، كنت أتحسسها، كعمياء تقرأ بطريقة بريل، كي أستشعر أي نتوء في جسدها، أو أي كليشيه، لكن أصابعي كانت تتحرك فوقها كما تتحرك على أصابع بيانو.

ما الحب، إذن، ما السعادة الصافية إن لم تكن لحظة أن يطمئن قلبك أن قصيدة ما قد انتهت؟ كما تحب أنت لا أي أحد آخر في العالم أن تنتهي؟  شيء كاكتمال جسدين، في ذروتهما؛ جسدي والقصيدة.

باريس/ 1998

ثم أين سأقرأ قصيدتي “الإيروتيكية”! كما أسموها!  إلا في أمسية شعرية  في باريس؟  لم يكن من الممكن، على أية حال، أن أقرأها في مصر أو في أي بلد عربي آخر، ولم يكن من الممكن أيضا أن أبقيها، كما نصحني أحد الأصدقاء “كأنها سري الدفين”!  لذا تأنقت (بجوب قصيرة وبلوزة بلا أكمام)  وذهبت إلى الأمسية، وشرعت في القراءة، دون خوف، دون محاذير، ودون أية توقعات.

في المقهى المقابل لمكان الأمسية، جلست أضمد جراحي، يواسيني الأصدقاء، إثر الامتعاض العام الذي سرى في القاعة، خاصة حين أخبرتهم أن أحدا في القاعة، مال علي وأنا أخرج، وهمس لي : “والله اللي ما أتجوز مصرية ما أتجوزش”… ! ظلت هذه العبارة تلازمني، حتى الآن، بابتذالها وقسوتها، كأنني كنت أقرأ قصيدتي لا في قاعة مؤسسة شهيرة، بل على فراش مؤجر متسخ.

لم يكن لدي إلا هدف واحد، استنزفني تماما، أن أكتب بجسدي كله، أن أدفع بحواسي كلها في وقت واحد، وأن يذوب عقلي، محاذيري، خوفي، في لغة، ألمسها

كان ينبغي أن أبقيها “سري الدفين”، وكان ينبغي أن أرتدي ملابس محتشمة، بأكمام على الأقل، كنت غافلة تماما عن أن  جسدها صار جسدي الذي تحدق به العيون في القاعة، وأنني حين نزعتها عن جسدي، صرت عارية تماما، صرت مجرد “امرأة” تفشي أسرار غرفة نومها أمام الناس، بل تدخلهم إلى غرفة نومها، ليشاهدوها في فيلم “بورنو”! في تلك اللحظة، أدركت أن على الشاعرة أن تختبيء، أن تترك قصائدها وحدها، لتُقرأ بعيدا عنها، أن لا تكون أبدا كظل لما تكتبه، تجلس بجواره، وتقول: “هذا أنا التي كتبتُ”، أدركت أن حضوري الجسدي إلى جوار قصائدي يشبه أما تصر على أن تبقى أمام باب المدرسة في اليوم الأول لذهاب طفلها، كان الانفصال حتميا، وأظن أنني بعدها أصبحت أكثر حذرا، أكثر ابتعادا، وأقل ظهورا بقدر المستطاع،  ولسنوات بعدها، (ثمان سنوات فيما أتذكر) ظل من كانوا في القاعة يلازمون بيتي، وحجرة نومي، ويطلون برؤوسهم في الأوراق وأنا أكتب، وأمزق ما أكتبه، أمام عيونهم.

ومن لا  يحب دون كيشوت؟!

سرت همهمة جديدة في القاعة، في هذه المرة (وبعد عشر سنوات)  كانت القاعة كبيرة، بدار الأوبرا بمصر،  قلت في نفسي: فلأضرب الخوف بالخوف، لم تكن القصيدة في هذه المرة تشبه جسدي، لكنها صنعت حالة من الارتباك، مسافة غير مفهومة بين صورتي بملابس محتشمة  أقرأ (بارتعاش لم يلحظه سوى من يعرفونني جيدا) وصورة امرأة تحكي علاقتها بكل أنواع الخمور التي شربتْها، في هذه اللحظات كان من الصعب مطابقة صورة المرأة على المنصة، وهي تقرأ بثبات، وصورة “البار مان” المرسومة في القصيدة، وكان من السهل علي أن أحتال على الجميع، بمقولة ظللت أرددها: “هذه القصيدة تناص مع التراث العربي القديم، “أبو نواس والمتصوفة مثلا”  ألم يكتبوا جميعا ”خمريات؟“.

لم يكن من المهم أن تنطلي “الحيلة” على أحد، كان من المهم فقط أن يكون لدي سلاح، إلى جوار قصيدتي، أي سلاح، حتى ولو كان سيفا من ورق قديم!

وبعدها، لم يكن في البيت أحد سواي، واستطعت أخيرا أن أعاود الكتابة.

لا يمكنني أبدا تعريف الخوف

….لا لأنه مبهم، بل لأنه مشترك، لأنه كليشيه، ما إن تقول لأحد يهمه أمرك “إنك خائف” سيوقن أنه فهمك على الفور،  سيحاول طمأنتك، سيسألك عن أسباب خوفك، ويفندها، وحتى لو لم تكن هناك أسباب واضحة، سيقنع بالمبهم، ويحيله إلى “الفوبيا” أو “البانيك أتاك” أو… أو… لكنني وأنا أكتب هنا أريد أن أبحث عن خوفي أنا، عن خوف يخصني، خوف لا يفهمه أحد، ولا يمكن لأحد أن يطمئنني،  خوف يغمرني تماما، كأنه الماء في رحم أمي، حيث كنت أسبح هناك، في تلك البالونة، حبيستها، بعيون مغمضة  أتحسس جدرانها اللزجة، وأنتظر تلك اللحظة التي تربت فيها على بطنها كي ألمس يدا أخرى.

والشيء بالشيء يذكر

يقولون إنني شجاعة، لأنني كتبت “أقفاص فارغة”، ويرى بعض القراء  أنه من غير الأخلاقي أن أكتب وأن يقرأوا فضائح أسرية! أداري ضيقي بابتسامة من يتفهم -لا تشبهني – وأنا أخبرهم أن المسألة ليست في الحكايات وإنما في إدخالها إلى “بيت اللغة” كما يقول هايدجر، أو أنني طالما كتبت فإنني أنتقل إلى منظومة أخلاقية أخرى، أحاول خدش المنظومة المألوفة المستقرة لكي أبني- مع من يبنون- منظومة أخلاقية مغايرة….كل ما أقوله هراء، لكنهم يقتنعون على مضض، أعرف أن استخدامي لكلمات كبيرة مثل “هايدجر”، “المؤسسات” ، سيكون مريحا لهم ولي، لأنني أشعر بالرعب حين أجلس في قاعة يسرد فيها ناقد أجزاء محددة من كتابي، أو حين أقرأ على صفحات الفايس بوك من يشيدون بجرأته وشجاعته في الحكي عن الأب السكير أو البنت المتحرش بها، ..إلخ. أكون كطفل يتلقى عقابا، حين يحكون ما كتبته بنفسي، كأنهم يغتصبون مني الحكاية، أو كأنهم يدخلون بيتي مرة أخرى، يفتشون في الأدراج ويبعثرونها، أمام عيني، حيث لا يليق أبدا  بالكاتبة الحاصلة لتوها على جائزة مرموقة أن تغادر القاعة هربا من من يحتفون- على طريقتهم- بها!

هل أنا بالفعل في “أقفاص فارغة” شخص لا أخلاقي؟

ربما . دون أي هراء عن تأسيس أخلاق جديدة…عليك أن تعترفي يا فاطمة، بهدوء، ودون إدعاءات، أن الكتابة أحيانا ليست سوى محض هدم، عنف وقسوة، تماما كما تدفع غريقًا يتشبث بك كي تنجو.

أين سأقرأ قصيدتي “الإيروتيكية”! كما أسموها!  إلا في أمسية شعرية  في باريس؟  لم يكن من الممكن، على أية حال، أن أقرأها في مصر أو في أي بلد عربي آخر

أو ربما تكون شجاعة المرتعب،  ماتت العائلة، وهذا إيذان بموتي أيضا، ما الذي يفعله المستند على جدار الموت سوى أن يسلي نفسه بالكتابة؟ يؤنس وحشته؟ ما الذي تفعله “الناجية الوحيدة” حتى الآن، سوى أن تستعيد حيوات ضاعت وأن تؤطرها على الجدران؟ أظن أنني تنبأت بهذا في ديواني “بيتي له بابان” وفي نص لم يلتفت إليه أحد عن “روبنسون كروزو”: ” ولأن روبنسون كروزو كان قد قرأ “روبنسون كروزو” ظل يتباطأ في بناء كوخه….لكنه، على أية حال، ظل وفيا للرواية الأصلية، ليس لأن الوفاء طبع أصيل فيه، وإنما لأن كتابة رواية جديدة لم يكن من بين المهام التي كُلّف بها”…أظن أن الشاعرة قد قررت أن تأخذ على عاتقها المهمة أخيرا..كتابة رواية، معروفة سلفا، مرتبة في أدراج الذاكرة، لا عوالم تتفتح في الخيال، لا شخصيات تباغتها، ولا انتقالات جذرية من الشعر إلى الرواية، كما يزعم بعضهم، “روبنسون كروزو الجديد” على أرجوحته، يسلي وحدته باستدعاء ما يتذكره من رواية “روبنسون كروزو” الأصلي.

يحق لي، إذن، أن أسعد قليلا، لا لأنني كتبت “أقفاص فارغة” بل لأن قدرا ما من التنبؤ في قصيدتي القديمة كان “صالحا لإثارة الدهشة”.

صار عندي ألبوم صور للجائزة

…وصرت أكثر حذرا…أتأمل ما كنت أكتبه بمرح على صفحتي الفايسبوكية، وأندهش، منذ وقت طويل لم أكتب، بداخلي خواء أغلفه كل يوم كي لا ينسرب إليه شيء، صرت “كأقفاصي الفارغة”، صرت أشبهها تماما، من يحبون الكتاب يقولون إنهم صاروا يرونني بشكل آخر، ثمة صور رسموها لي، كنت بعيدة جدا، لكنهم بعد القراءة صاروا يعرفونني، أو يعرفون شيئا من أنفسهم فيما كتبتُ، مزقوا صورهم القديمة عني؛ “الأكاديمية المتعالية”  أول الصور التي تمزقت تماما، وأشّعلتْ النار فيها، “الشاعرة المنعزلة” كذلك، “البرجوازية  ابنة مصر الجديدة”…مزقوا الصور كلها، كنت أعرف ما يحتفظون به عني، كنت مطمئنة للكليشيه، كيف ألم صورهم الجديدة عني؟ كيف أتأملها؟ كيف أمتلكها وأضعها على جدران قلبي؟ كيف أحتمي بها؟  أنا أيضا، مزقت صوري القديمة، وصرت بلا ذاكرة، أفرغت كل أجولة الحكايات دفعة واحدة، حتى أصدقائي الذين كنا نسلي أنفسنا بأن أحكي لهم ويحكون لي صاروا يعرفون كل حكاياتي، كل الحكايات التي كنت أحكيها لأخفي بها حكايات أخرى لا يمكن أن تُحكى، هل سيصدقني أحد إذا قلت إن “أقفاص فارغة” هي ذلك القناع الذي اختبأت خلفه؟ وهل ثمة شجاعة  في أن تخلع أقنعتك؟ وتمنحها للآخرين؟ كي ترى في المرايا وجهك الحقيقي، وكي تقنع نفسك، أو أحاول إقناع نفسي، أنه بإمكاني حتما وذات صباح قريب أن أصنع حكايات جديدة؟

في المقهى المقابل لمكان الأمسية، جلست أضمد جراحي، يواسيني الأصدقاء، إثر الامتعاض العام الذي سرى في القاعة، خاصة حين أخبرتهم أن أحدا في القاعة، مال علي وأنا أخرج

نعم، أظن أنني شجاعة، وأظن أنني لا أخاف حين أكتب (أو ثمة شخص في داخلي يكون مستغرقا تماما فيما يكتب، شخص تسقط عنه لساعات أو لشهور أسوار العالم) لا لأنني كتبت ما كتبته  في “أقفاص فارغة” ولكن لأنني غامرت بالحكاية، غامرت بأن أحدق الآن في الفراغ، بعد أن كتبت، ولأنني كنت أعرف منذ البداية أن هذا سيحدث، وأصررت على ملاقاته في النهاية. لكن، وبالرغم من كل شيء:   ألم تنتهِ  “الليالي الألف” نهاية سعيدة ، يتزوج شهريار بشهرزاد؟ وألم تنس شهرزاد كل رعبها؟ ألم تلق عبء الحكي ليلة بعد ليلة كي تعيش؟ ثم ألم تتحقق لي النهاية السعيدة أنا أيضا، ألقيت عبء الحكي عن قلبي، وتداول الناس “أقفاصي الفارغة” ونلت عنها – وللمرة الأولى في حياتي – جائزة؟!

المصدر: مجلة الجسرة الثقافية. العدد: 62

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى