خوف الفلسطيني

حنظلة الساخر في فيلم  إيليا سليمان “لابد أنها الجنة”

استاذ الآغا خان للعمارة الاسلامية. معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT

مثل الكثير غيري من عرب المهجر الذين يتابعون متغيرات العالم ويلاحظون تخلف العالم العربي المتزايد عن اللحاق بالركب، أحاول من خلال الإشارات الثقافية والفنية التي تصلنا من الداخل العربي تلمس بعض بقع ضوء تنير بعضاً من العتمة التي أراها منتشرة على غالب المساحة من المحيط إلى الخليج. 

ومثل الكثير غيري من عرب المهجر غير-الفلسطينيين، مازالت فلسطين هي البوصلة الأولى التي من خلالها نقيس ضغط العالم العربي ودرجة سخونته. نخشى على فلسطين، مابقي من أرضها ومن فكرتها ومن كينونتها كقضية تحرر، من تلاعب العالم بها ومن تنابذ أبنائها، ونتلمس في كل مايأتينا منها دلالات على عافيتها أو مرضها، على صمودها، على عنفوانها، على مقاومتها. ولاأبلغ حقيقة من السينما في توصيل هذه الإشارات، أو على الأقل هذا ما أوحى لي به فيلم إيليا سليمان الأخير “إن شئت كما في السماء” أو “لابد أنها الجنة” كما يجب أن يترجم العنوان من الأصل الانجليزي  It must be heaven، الذي أطلق  عام ٢٠١٩ وعرض في العديد من المهرجانات السينمائية العالمية وحصل على «جائزة الاتحاد الدولي لنقاد السينما ـ فيبرسي» في كان.

كتبت مراجعات نقدية عديدة لهذا الفيلم، ولذا أنا هنا لاأقدم مراجعة جديدة للفيلم، الذي سيكون عملاً ممجوجاً بما أنه قد مر أكثر من أربع سنوات على ظهور الفيلم.  ولكني سأبدأ بالقول بأني بعد أن شاهدته وجدته رائعاً سينمائياً ومعبراً على أكثر من مستوى من الجمعي المتخيل إلى الشخصي.  ولذلك فما سأقدمه هنا هو قراءة لرسائل الفيلم كما رأيتها كمتفرج عادي مع اهتمام أكثر من عادي بالقضية الفلسطينية وحقائقها على الأرض ومواجعها ومآلاتها الممكنة.

بداية، عنوان الفيلم الملتبس بالعربية يحمل أكثر من رسالة مشفرة.  فالفيلم، الذي يقوم ببطولته سليمان نفسه، كما في أفلامه الروائية الثلاثة الأولى التي شكلت ثلاثية وجودية واضحة مع حس سوريالي متضخم بالسخرية كعلاج، يتبع بطله في رحيله من الناصرة إلى پاريس فنيويورك ثم عودة آنية إلى الناصرة كما في حياة سليمان الحقيقية.

لا يملك المتفرج من التساؤل عن هذه “الجنة” الموعودة في العنوان: هل هي الهجرة من أرض محتلة حتى النخاع إلى عالم أوسع؟  هل هي “مدينة الأنوار” پاريس التي يظهرها سليمان بأبهى صورها ولكن بطريقة سوريالية مبالغ فيها؟  أم هي العودة إلى المنبع، فلسطين المحتلة، والقبول بها كعالم مليء بالإشارات الرمزية إلى المشتهى والمرغوب به والبعيد المنال، كشرب كوقفة على شاطىء خال على بحر أزرق هائج ولامتناه؟ أم، وهذه هي ربما أقوى صور الفيلم، تجسيد الوطن بالمرأة الفلاحة المسربلة بالثوب الفلسطيني المطرز التي تخلع خمارها الأبيض وهي تسير مبتعدة بين أشجار الزيتون قرب نهاية الفيلم؟

أظن أن تعاطي إيليا سليمان الساخر مع قدره خلال تاريخه السينمائي كله وترجمته النزقة لهذه السخرية إلى مواقف كوميدية مؤلمة وغرائيبة في الآن نفسه، تجعل السؤال بذاته حالة تهكم أخرى تخفي في طياتها إستحالة الإجابة أو ربما تهافتها وانعدام جدواها.

في هذه الحالة يبقى لسليمان إمكانيتان للتعامل مع الوضع في ناصرته القابعة في ظل احتلال متطاول سلب منها ليس فقط وسائل العيش ولكن واقعيته وعاديته.  الامكانية الأولى هي دفع السخرية إلى أقصى حدودها لكي تنحو باتجاه اللامعقول، ربما كوسيلة للإفلات من المساءلة الوطنجية التي تقرأ في نقد سليمان مهادنة بل واستسلاماً، ولكن أيضاً كأداة تسليط ضوء أقوى على تناقضات العيش في بلدة المسيح كما استنبطنها فلسطينيو الداخل بعد أكثر من سبعين عاماً من قطع حبلهم السري مع باقي أرجاء ثقافتهم العربية التي سرعان ماتخلت عنهم وتركتهم لإسرائيل لتؤسرلهم غصباً.  أما الإمكانية الثانية، وهي الموضوع الأساس في الفيلم، فهي الهجرة، وهي ما اختاره سليمان فعلاً حيث أنه يقيم معظم الوقت في پاريس، وهو في فيلمه قد عاد إلى فلسطين كما في الحياة لكي ينظم ماخلفه والداه المتوفيان، اللذان ظهرا في أفلامه السابقة عجوزين وهما هنا قد ودعا الدنيا مخلفين مالاطاقة له بالحفاظ عليه وتعهده.

ينوس الفيلم بين هاتين الإمكانيتين كسبر سينماتوغرافي للمعضلة الوجودية التي يجابهها واقعاً إيليا سليمان المخرج الفلسطيني، المثقف، المسيحي، ابن الناصرة المحتلة، الذي صنع لنفسه اسماً في عالم السينما العالمية عبر غرائبيته وسخريته الجادة، ولكنه مع ذلك مازال يواجه باللامبالاة أو بالرفض. يبدو ذلك في لقطتين من الفيلم الأولى في پاريس والثانية في نيويورك، ربما شكلتا السبب الأساس لانتقال بطلنا إلى هاتين المدينتين.  ففي پاريس يعتذر ممول تقدمي عن دعمه لأن فيلمه ليس فلسطينياً كفاية في حين تتجاهله المنتجة الأمريكية تماماً على الرغم من استخدامه لصديق ممثل مكسيكي مشهور للتعرف إليها.  ويعود البطل إلى الناصرة بخفي حنين، ترجمتهم الواقعية نجدها في لائحة ممولي الفيلم الطويلة مما يدل على صعوبة الحصول على تمويل كاف، ووجود اسم معهد الدوحة للفيلم على رأس القائمة ربما كملاذ تمويلي أخير (أرجو أن يستمر في دعم أفلام على هذه الدرجة من التقانة والتعبير).

ولكن الواقع وخيباته لايمثلان حقيقة سوى المسوغ والمدخل إلى عالم الفيلم.  فإيليا سليمان، كما يبدو لي، لايرغب بتقمص هوية المجموع أو الشعب في تعامله مع قضيته وقضية شعبه الوجودية، ولكنه أيضاً لايريد لنا أن نرى المأساة التي يقدمها بحبكة معقدة ومتداخلة وعابرة للحدود على أنها شخصية بحت أو سياسية أو استعمارية فقط.  ولذا فهو يعمد، كما عمد الكثير ممن سبقوه في تقديم شهادتهم عن العالم حولهم، إلى تقمص شخصية المتفرج الصامت الذي يشاركنا القليل من عواطفه وردات فعله عندما ينقل لنا وحشية ولامعقولية العالم الذي يسحقه أو يغويه.  ثابر إيليا سليمان على هذه الشخصية خلال أفلامه السابقة كلها.  بل أنه لم ينطق بحرف في بعض منها على الإطلاق.  وهو هنا يشبه من عالم السينما الصامتة بستر كيتون  Buster Keatonبوجهه الخال من الانفعالات أو حتى تشارلي شابلن  Charlie Chaplinوشخصيته المفضلة “المتشرد.”

ولكني أظن أن الشخصية المثلى التي يتقمصها سليمان في “لابد أنها الجنة” وفي أفلامه السابقة أيضاً هي شخصية نابعة من حنظلة للفنان الشهيد ناجي العلي، ذلك المتفرج الفلسطيني الصامت الذي أدار لنا ظهره، ربما قرفاً واشمئزازاً من الواقع العربي المتخاذل أو خوفاً ورهبة من هذا الواقع الصادم نفسه.  ولكنه مع ذلك، وربما بسبب من إزاحة نفسه عن عيوننا وإعطائنا ظهره، تمكن من فتح أعيننا على “مسألة فلسطين” وتناقضاتها ومساراتها المتعثرة ولحظاتها المضيئة وعنادها ولسنوات قبل اغتياله.  سليمان هو حنظلة الساخر المناسب لهذه الأيام التي انتفت فيها إمكانية الصراع المسلح ضد العدو المحتل، أو كادت، والتي تراجعت فيها إمكانية التعويل على دعم عربي تخاذل إلى حد الذوبان أو انكسر إلى حد التشرذم. هذا الحنظلة الساخر، العابر للحدود والثقافات، الذي يمتلىء أسىً وصلابة في الآن نفسه، يتمتع بواقعية وغرائبية متلازمنين، صقلتهما عقود من التعامل مع واقع مر، مفروض ومرفوض، واحتلال مزمن وعولمية كاسحة. ولكنه أيضاً حنظلة القرن الواحد والعشرين الذي يدير لنا أخيراً وجهه الساخر والمعبر لكي يبقينا على أعصابنا كلما تجاهلنا مرارة الواقع الذي يصوره وغرائبيته، وكلما فضلنا أن نرى في أفلامه الكوميديا الصرفة وننسى ألم فقدان فلسطين الوطن ومجمع الناس وموئل التاريخ والهوية وانكسارها كقضية العرب الأولى على الرغم من صعودها البطيء إلى حد الألم في الوعي الجمعي الأخلاقي العالمي كما يظهر من تعاطف بعض الشخصيات مع سليمان، وإن كان أحياناً بسذاجة أوبلامبالاة.

      يبقى لسليمان إمكانيتان للتعامل مع الوضع في ناصرته القابعة في ظل احتلال متطاول سلب منها ليس فقط وسائل العيش ولكن واقعيته وعاديته

مع أن كل لقطة في الفيلم تبرز هذا الحنظلة الذي أتكلم عنه، إلا أن ثلاث لحظات تختزل مايريد إيليا سليمان قوله في هذا الصدد.  الأولى هي خاتمة الفيلم حيث يجلس حنظلتنا مع نظرة متشاقية بعض الشيء في مرقص صغير في الناصرة حيث يرقص جمع شبابي صاخب على وقع أغنية يوري مرقدي “عربي أنا،” كتعبير متناقض عن عبثية وضرورة التمسك بالهوية العربية في الآن نفسه في ظل احتلال يمتص الأرض والموارد.  اللقطة الثانية في نيويورك حيث تخلع فتاة بجناحي ملاك صدريتها ليظهر علم فلسطين مرسوماً على صدرها ويلاحقها عناصر الشرطة لتغطية عريها وبنفس الوقت تغطية علم فلسطين طبعاً، ولكنها تختفي تحت أثوابهم، ويبقى منها الجناحان.  هنا تذكرت فيلم ڤيم ڤيندر Vim Wenders “أجنحة الرغبة” Wings of Desire وملائكته الهابطون إلى الأرض والمتخلون عن ملائكيتهم، تماماً كما يبدو أن الفتاة/الملاك تفعل لأجل فلسطين في فيلم سليمان. وتذكرت أيضاً الفنانة السورية هالة فيصل التي ظهرت عارية عام ٢٠٠٥ في حديقة في نيويورك مع عبارات مرسومة على جسدها للاحتجاج على الحرب ضد العراق قبل السقوط. ولكن إيليا سليمان لم يسمح لخيالي بالتحليق بعيداً، إذ أنه، متهكماً من كل التوقعات المتصعدة، أظهر الفتاة/الملاك ثانية على دراجتها متوجهة لحفل تنكري. وهو قد قضى بذلك على إمكانية تخيل أي التزام في عالم اليوم الاستهلاكي حيث اللهث وراء الجديد والمختلف، ولقة العيش بطبيعة الحال، قد طغت على أي احتمال آخر للوجود.

الواقع وخيباته لايمثلان حقيقة سوى المسوغ والمدخل إلى عالم الفيلم.  فإيليا سليمان، كما يبدو لي، لايرغب بتقمص هوية المجموع أو الشعب في تعامله مع قضيته وقضية شعبه

ولكن اللقطة الأكثر مرارة وصدى هي تلك اللحظة الوحيدة في الفيلم التي ينطق فيها إيليا سليمان، القادم لتوه إلى نيويورك والذي بدأ يتوجس شراً من سائق التاكسي الأسود الذي يأخذه عبر شوارع جانبية في أحياء معتمة، بعبارة واحدة جواباً على السؤال الممل “من أين أنت؟” فيقول، “أنا من الناصرة. أنا فلسطيني.”  هنا تسقط كل أقنعته، ويظهر المخرج اللامنتمي على حقيقته، حاملاً لهويته معه في كل مكان، وإن كان يغطيها بحبكة فنية رائعة وبسخرية لامتناهية لاأظنها ستغادره في أي وقت قريب. هنا فقط غادرني بعض من هلعي على مستقبل القضية الفلسطينية، إذ تيقنت أنها باقية في عقول وقلوب الفلسطينيين، داخل وخارج فلسطينهم التاريخية، على الرغم من أن احتمال استعادتها كواقع وأرض ووطن مازالت بعيدة، وإن لم تكن مستحيلة.

المصدر. مجلة الجسرة الثقافية. العدد: 62

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى