مشاهد من ذاكرة الخوف

لو كان بإمكاني أن أجلس معه!

من أين يبدأ الخوف؟ وهل ينتهي؟

فكرت كثيرا أن أتجاوز هذا النوع من التساؤلات، عدم مواجهتها أو الكتابة عنها، لكني مع  كل خطوة أنوي الانسحاب أعود وأتراجع عن قراري، أفكر أن الكتابة بحد ذاتها تحديا دائما.فالكلمات رسائل كونية تجعلنا على أهبة الاستعداد لاستقبال مخاوف كل مرحلة، لذا يبدو تفكيك الخوف في حد ذاته نوعا من الاحتيال المراوغ للتعرف إليه عن كثب؛ رغم أن كل زمن نعبره، يأتي إلينا حاملا معه مخاوفه الكامنة والخفية، هذا أمر يقع  ضمن أحد قوانين الحياة، مخاوف الطفولة ليست هي عينها التي ترافقنا اليوم.. الأشباح المختبئة في الظلام، الذي تم تبديده بفعل النضج حل مكانه بمرور العمر بحر من الظلمات، يمتد على وسع الأفق ويتركنا نتأمل في فراغه الشاسع، بهدوء حينا، فيما  تلطمنا أمواجه الكثيفة في أحيان أخرى، وتتركنا نرتعش أكثر خوفا منا حين كنا أطفالا.

لذا، يبدو من المهم التصالح مع فكرة أن الإنسان بطبعه كائن خائف، منذ خاف من البرق والرعد والديناصورات، وحتى خوفه من القنبلة الذرية؛ . فالاستعداد الفطري للانسان أن يظل خائفا  مما قد يسبب له أذى يهدد حياته.

كثير من مخاوفنا هو وليد المجتمع، مثل الخوف من العتمة، أو الأشباح إذا كان الطفل تربى وسط عائلة تحكي على أسماعه حكاياتها. الخوف محفز قوي للتطور، للتغيير، هو الذي جعل البشرية تتطور، بحيث لم يعد بإمكان دبٍ عابر أن يدخل أحد الكهوف ليلتقط طفلا رضيعا ليكون وجبة له. لقد صار هاجس الانسان أن يكون له بيت يحميه منذ سكن الأشجار والكهوف، وأرعبه صوت الرعد والبرق، وهلع من الوحوش الطليقة. لكن هذا لا يعني أنه تجرد من كل مخاوف ذاك الزمن.

لذا، يبدو من المهم التصالح مع فكرة أن الإنسان بطبعه كائن خائف، منذ خاف من البرق والرعد والديناصورات، وحتى خوفه من القنبلة الذرية

تعتبر نظريات علم النفس الحديثة أن الإنسان ورث في جهازه العصبي منذ عشرات الآلاف من السنين مخاوف معينة، منها  أنواع ” الفوبيات” الكثيرة التي نسمع عنها، فقد ربطها بعض العلماء بالحياة البرية القديمة،  فالخوف من السقوط ذكرى حياة أجدادنا الذين كانوا يعيشون  فوق الأشجار. أما فوبيا الأماكن المغلقة فيرجع إلى الوقت الذي كان يعيش فيه الإنسان في المغاور والكهوف..كذلك الخوف من الأماكن المفتوحة يرتد إلى معيشته في السهول وهربه من  الوحوش.

بين ضفتين

يمكن اعتبار الحروب من أكثر مراحل البشرية التي تكون فيها غريزة الحاجة للأمان أكثر تحفزا على مدار الساعة. فالموت الشائع يدفع البشر للهروب والاختباء وللتنازل والتخلي بغرض انقاذ حياتهم. مرت البشرية بحربين عالميتين، أحدثتا هلعا داخليا يجثم على القلب عند سماع كلمة الحرب، لكن هذا الهلع عينه يستشري لينطبق واقعيا على كل الحروب الصغرى والكبرى منها، بل على كل ما يهدد حياة المرء.

في عام 1982، وقع الاجتياح الإسرائيلي على بيروت، كنت في عامي السابع، لا أذكر خوفا مفرقيا قبل هذا التاريخ. لسنوات طويلة ظلت أصوات طلقات الرصاص، أيا كان سببها تصيبني بحالة من القشعريرة، تعاودني سريعا لحظات الطفولة المرعبة، تقفز إلى مخيلتي كل ذكريات الحرب رغم تباعد الزمن، خيالات تتلاحق بلا مناسبة تفرض نفسها دون استئذان.

يمكن اعتبار الحروب من أكثر مراحل البشرية التي تكون فيها غريزة الحاجة للأمان أكثر تحفزا على مدار الساعة

الرحيل عن المدينة بسبب الحرب، سوف يجعل الخوف الواقعي، يتجلى في أشكال مختلفة للتعامل مع البيئة الجبلية، التي سوف تترك بصمتها الحيوية على كل تفاصيل الحياة التي باتت مختلفة تماما؛ مثل عبور جسر خشبي رفيع يمتد وسط نهر قصير، كان ذاك العبور يمثل رعبا في المرات الأولى، ثم بمرور الوقت صار السير على الخشب المتآكل فنا من فنون التوازن للوصول إلى الضفة الأخرى. وبمرور الزمن، ومع اختلاف المراحل سرعان ما أدركت الوجود الدائم لجسر ما، خشبي رفيع  يمتد بين ضفتين، وعلينا في كل مرة نقرر فيها عبوره أن نحافظ على توازننا.

مرافقة  الوحش

في عام 2020، تواجهت البشرية كلها مع الخوف. في كثير من الأوقات انتبهت إلى استبدال اسم هذا العام بالإشارة إليه مع عبارة ” عام كورونا”، يمكننا أن نضيف بسهولة “عام الخوف”. تشاركت البشرية كلها- مع قلة لابأس بها تحلت بالامبالاة- مشاعر الرعب من الفيروس الصغير، الذي يترك تأثيرا كبيرا على من يزوره.

في الأيام، بل والأسابيع الأولى من المرابطة في المنزل، لم أكن منزعجة من تحديد الإقامة هذا، أنا كائن بيتوتي بطبعي، لكن البقاء في المنزل وفق اختيار شخصي شيء، والبقاء الإلزامي شيء آخر. تجلت العلاقة مع الخوف خلال المرحلة الأولى من انتشار الوباء، في الترقب والهوس، والسؤال عن المنفذ الذي سوف يتسلل منه الفيروس، كي يهاجمني.

كنت أشكر الله على كل يوم يمر بسلام من دون أن تعرف كورونا طريق بيتنا، لكن هيهات.. وكلي إدراك هلعٍ  أن الأمر  لن يطول كثيرا

كنت أشكر الله على كل يوم يمر بسلام من دون أن تعرف كورونا طريق بيتنا، لكن هيهات.. وكلي إدراك هلعٍ  أن الأمر  لن يطول كثيرا، إن عاجلا أم آجلا  سوف أكون في عداد المصابين. لن أطيل الحديث كثيرا عن تلك المرحلة التي مررنا بها جميعا، لكن مما لاشك فيه أن اللقاء مع الوحش، ومواجهته أهون من السماع عن أفعاله المهولة. ففي الحروب كبيرها وصغيرها، وفي المواجهات المقلقة والمؤجلة ثمة طبقة انسانية تقطن بين العبث والامبالاة تتولد عنها حالة من السخرية  والفكاهة، تعيننا على تجاوز الخوف والألم.

كان من ضمن مفارقات الخوف من كورونا أنها لم تعرف طريق بيتنا في العام الأول الذي أمضيته خائفة، جاءت إلينا بعد أن انفرج العالم قليلا وبدأت عودة الحياة الجزئية. أذكر من مرحلة الخوف تلك  الزيارة التي اصطحبنا فيها أنا وزوجي ابني “عمر”، للطبيب المعالج، صاحب العيادة الممتلئة على آخرها، رجل قصير، أسطواني، شبه أصلع يستمع لأم كلثوم  بصوت خافت وهي تغني:” يا ظالمني”، ويحتسي قهوته بهدوء في العاشرة مساء، لاهيا عما تفعله كورونا في العالم. حين بادرت للشرح عن شكي في أن يكون ابني مصابا بالفيروس، رد علي مع ابتسامة عريضة : ” يا مدام، ما تقلقيش، كورونا دي ملعبي، أنا عايش مع كورونا كل يوم”. لم تسعفني بديهتي للرد، وهذا غالبا ما يحدث عند المفاجأة، تدخل زوجي مستقبلا دعابات الطبيب، حيث انتهى الحوار في تلك الزيارة  بطلب بعض التحاليل وطمئنتنا على صحة ابني، ثم أخذ الطبيب المبتهج رأينا في مسألة تقض مضجعه ولم يتمكن من حسم أمره بها، قال لنا وهو يتحسس ما  تبقى من شعيرات رأسه بأنه يفكر القيام بعملية زرع شعر. أذكر أني كززت على أسناني كي أمنع نفسي من الضحك، كان زوجي يشجع الطبيب على خوض المغامرة، وكان هاجسي في تلك اللحظة مغادرة عيادة الكورونا، هذا المكان المخيف الذي تسبح فيه الفيروسات على أنواعها، حيث لم أكن أُخمن وجود طبيبٍ حائر، يفكر بخطط تجميلية لمواجهة الحياة. الطبيب لم يكن خائفا من كورونا، كان خائفا أكثر من نتيجة عملية زرع الشعر! أليست هذه مفارقة كبرى؟ هل لأنه اعتاد مواجهة الوحش، فما عاد يخشاه؟

طاولة للكتابة

حين تمضي بنا الأيام، يأتي الخوف في صور مختلفة، نخاف على  أحبائنا أكثر مما نخاف على أنفسنا، ونخاف السقوط أسرى مرض ما.

قرأت مقالا عن الكاتبة الإيرلندية، آنا بورنز التي كتبت رواية بعنوان ” بائع الحليب”، كان لتلك الرواية حكاية فريدة، من جهة أنها نالت عنها جائزة البوكر، ومن جهة أخرى أنها كتبتها وهي مصابة في عامودها الفقري، لم تكن آنا تتحرك إلا ضمن غرفتها، حتى وجبات الطعام، كانوا يضعونها لها على طاولة صغيرة فوق السرير، تلك الطاولة هي عينها التي استخدمتها لكتابة روايتها الفائزة.

الرحيل عن المدينة بسبب الحرب، سوف يجعل الخوف الواقعي، يتجلى في أشكال مختلفة للتعامل مع البيئة الجبلية، التي سوف تترك بصمتها على كل تفاصيل الحياة

صورة تلك الطاولة، ودورها في حياة آنا بورنز، ظلت ماثلة في مخيلتي، مع آلام الظهر ومخاوفي بأن تتفاقم؛ فأكون في حاجة لها ذات يومٍ. إنني أتحرك، أمشي، أبذل طاقة كبيرة في اتجاهات شتى، كي أحارب صورة تلك الطاولة الصغيرة، ماذا لو لم أقرأ عنها؟ هل جاء ذاك المقال رسالة لي في خضم سنة الآلام تلك، تدور في داخلي كل تلك التساؤلات.

في غرفة الأشعة، كنت سأنسى أن هناك صورة سماء تتجمع فيها غيوم ناصعة البياض في السقف، وسنابل خضراء على الحائط المقابل. شردتُ في اغفاءة قصيرة، أقصر من أن تُعتبر اغفاءة، ثوان قليلة،رغم سدادات الأذن؛ لم أنعزل عن الصوت الذي يُصدره ذاك الجهاز فوق رأسي، مثل موسيقى لعازف مصاب بتفتت في أعصابه، يُكرر الجهاز نغمته :” دممم دااااا..داااا دمممم”، أكاد أنسى أن هذا الجهاز يجثم فوق رأسي ويمنعني من القيام بأي حركة، في الحقيقة هذا هو المطلوب تماما، أن لا أتحرك كي يتمكن الجهاز من القيام بمهمته، في تلك الإغفاءة كنت تلك النقطة المجردة، التي تنظر للعالم من علٍ، ماذا يوجد في أدراجي، في حقائبي، ما الذي سوف يُرهق الآخرون في تصنيفه؟ أوراق ودفاتر وقصاصات، رسائل ترجع إلى عشرين عاما، حين كانت أمي وصديقاتي يكتبون لي عبر الورق.أفكر في الألوان الكثيرة، واللون الأبيض فوق رأسي، أفكر في شجرة البن، وفنجان قهوة مؤجل، وصوت الجهاز الذي يتآخى مع اغفاءتي القصيرة، أفكر ما الذي يراه، داخل عظامي، وأتذكر قصيدة غسان تويني التي  غنتها ماجدة الرومي، كتبها حين كانت زوجته الحبيبة ناديا، تجري عملية في القلب، كتب لها:

غدا عندما يدخلون قلبك الجريح يا حبيبي،

أتراهم يقرأون فيه اسمي؟

ماالذي من الممكن التفكير به في تلك اللحظات، سوى بالأشخاص الذين نحبهم، والأشياء غير المكتملة، والقراءات الناقصة، والروايات لم تكتب، وبلدان حلمت بالسفر إليها، لا أحد يعنيه كل هذا. في كل يوم أفكر  أن علي لملمة كل تلك التفاصيل المبعثرة قبل الرحيل، فلا يحتاج أحد لكاتالوجات كي يفك طلاسمها. لن أترك حكايات شريدة، ولا  قصاص الأثر هاربا  لأنه أفشى أسرار الحي الزائل. كل هذا ينبغي أن ينتهي.

 يبدو تفكيك الخوف في حد ذاته نوعا من الاحتيال المراوغ للتعرف إليه عن كثب؛ رغم أن كل زمن نعبره، يأتي إلينا حاملا معه مخاوفه الكامنة والخفية

في لحظات الخوف تلك، فكرت بجدتي “رئيسة”، ذات اليدين السحريتين، كيف رحلت عن العالم في اغفاءة قصيرة ، قالت لابنتها مريم أنها تشعر بالارهاق عقب زيارة أقاربها وأصدقائها في يوم واحد، ثم نامت بهدوء. نوم لم تنزعج من بعده بما يفعله الوحوش في البلاد. لطالما غبطتها على تلك الإغفاءة، وتمنيت أن أرثها. هل نحمل في جيناتنا سبل الرحيل، كما ينقل دمنا الكوليستيرول من جيل إلى جيل.

أفكر في الحاجة لكوب من عصير اليوسفي الذي أحبه، لكني أقرر استبداله بالقهوة، أتساءل لماذا لم يرسم بيكاسو شجرة البن؟ أتراه فعل، وأنا لا أعرف؟

في لعبة  Virtual reality يضع اللاعب الجهاز على رأسه ويمضي في طريقه، وحين يجد نفسه فجأة عند منعطف مرعب فإنه يشعر بالخطر وقد يصرخ تعبيرا عن خوفه، رغم إدراكه أنه يجلس في غرفة جلوسه وعلى مقعده الوثير الآمن، هذا الحدث يُشبه الذهاب إلى حديقة الحيوان، والاقتراب من عرين الأسد عبر زجاج عازل، ما إن يزأر الأسد ويتجه نحو الجمهور حتى تتعالى الصرخات للتعبير عن الهلع، رغم إدراك استحالة عبور الأسد ليفترس الحاضرين.

ربما لو كان للخوف ساقين وقدمين وجسد، لو كان بالإمكان أن أجلس معه وأتحدث إليه طويلا، كنت تفاوضت معه على الرحيل، إذ لطالما ظل يسير بمحاذاتي،ربما لو كان الخوف رجلا، لطبقت معه قول الإمام علي” رضي الله عنه” في وصفه للفقر، لو كان رجلا لقتلته.

** المصدر. مجلة الجسرة الثقافية . العدد: 62

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى