لوحات ملهمة وقلاع وحدائق مسمومة

(1)

ذات مرة، في لندن، أخذتني صديقتي إلى المعرض الوطني The National Gallery، وهناك في أول قاعة على اليسار، كان الناس قد تركوا كل اللوحات، ووقفوا مشدوهين أمام لوحة احدة، هي A Grotesque Old woman أو The Ugly Duchess لكونتين ماسيس Quentin Matsys. عندما رآني الحارس العجوز أحدق في اللوحة بذهول، جاء يقول إن الفنان قد رسم صديقه على هذا النحو، لأنه كان مستاء منه!

كانت صورة التراثيين في ذهني شديدي الوقار وجديون مجللين بالهيبة وذوي لحى طويلة بيضاء

كنت حينها أدرس الماجستير في الأردن. بعدها في الدكتوراة كان عليَّ أن أختار موضوع رسالتي، فاخترت موضوع (القبح)، وأثناء نبشي العلمي فتحت كتاب دليل الناقد الأدبي، وإذا بي أرى مصطلح (القبح) ترجمة لـGrotesque. لاحقا، تبين لي أنها ترجمة خاطئة، فالمصطلحان غير متساويان في النقد الغربي، وإنما القبح واحد من موضوعاته ودلالاته. المهم أني كتبت رسالتي في الغروتسك، على الرغم من معضلة الدمج بين تخصصين: الفن والأدب، وهو دمج أحببته، وإن لم يكن مريحًا أكاديميًا، وحصلت على الدكتوراه.
أما اللوحة العتيدة، فقد قرأت فرضيات عديدة لها، ولكن لغاية اليوم ما من تفسير نهائي لها.

(2)

ذات مرة أقدم، أيام البكالوريوس، كان مطلوبا منا أن نكتب بحثًا في مادة الأدب العباسي، واخترت أن اكتب عن بشار بن برد. بحثت عن ديوانه في مكتبة الجامعة، وعرفت أن ليس هناك إلا نسخة واحدة وهي في مكتبة البنين، وطبعا دونها أهوال ومخاطر.
فكرت، وقررت الاستعانة بالكتاب الأعظم! الأغاني للأصفهاني، الذي أراه كل يوم متربعًا أمامي فوق التلفزيون في بيتنا، في غرفة الجلوس الصغيرة، والذي لم أجرؤ يوما على فتحه، فقد كانت هذه الكتب التراثية تثير رهبتي، ليس حجمها هو المقلق، فقد قرأت منذ أول مراهقتي روايات بالحجم ذاته، ولكن المشكلة كانت في تجليده الصلب وعنوانه المزخرف، مما أقام بيني وبينه حاجزًا بعيدًا، يقول لي أن ما فيه خطير وصعب وفوق إمكاناتي، كتاب لا يمسه إلا لا أدري من، ولكن حتما ليس أنا. المهم أني أخذته من مقامه العلوي، وفتحت فهرسه، وبحثت عن اسم بشار بن برد، وأخرجت المجلد الذي يتضمن أخباره، وأخذت معي هذا المجلد، ورحت الجامعة.
في مكتبة الجامعة قرأت. لا أعلم لم كان التراثيون المغبرون في ذهني شديدي الوقار وجديين، هكذا كانت صورتهم عندي، مجللين بالهيبة، وذوي لحى طويلة بيضاء، لكن بشار كان قبيحا بذيئا، وأعمى، والمؤكد أنني لو كنت عرفته وجها لوجه ما كنت لأحبه، لكن تلك الأفكار النقدية المسبقة حول شعوبيته لم تبد لي حقيقية. كان الأمر يتعلق ببيتين أو ثلاثة لا أكثر، كررهما النقاد، بينما بدا لي أنه شخص استفزازي وعابث أكثر منه جدي في علاقته بأجداده! والأمر الثالث تلك الفكرة المتكررة التي تقول إن الخليفة قتله بسبب شعوبيته، بينما ثلاث روايات في كتاب الأغاني تروي البيتين البذيئين جدًا، اللذين سب بهما الخليفة، وكانا سببا ليلاحقه جنود الدولة، فيسمعونه في مكان صحراوي وهو يؤذن سكرانًا، فيجلبونه، ويجلدونه، فإن قال “آح”، غضب عليه الجلاد أكثر، وقال له: “لم لا تُسمّي؟،” فيرد عليه بشار من تحت السوط: “وهل هو ثريد كي أسمّي عليه؟!”. ثم رميت جثته في مكان لا يعلمه إلا الله.

أردت أن أصنع سجونًا لئيمة ما دام الأمر لا يتجاوز الخيال

هذه الرواية غير البهيجة، ظلت تحفر في ذهني حفرًا متعددة، امتلأتُ بالشكوك تجاه كل ما هو تراثي، وبت حينما اقرأ أضع نسبة عالية من عدم الوثوقية، وأيقنت أن المصداقية ذاتَ نسبة مئة بالمئة مكذوبة حتمًا.
هذه العبثية والجنون، وتلمس الحقيقة في الكذب، هذا الأدب غير المحمول جديا، هذا الشاعر الملوية أعناق معتقداته، وهاته الكلمات التي تورِد موارد الهلاك، كل هذا بشكل ما أثر على قراءاتي البحثية اللاحقة.


سنوات الدراسة العليا كانت سنوات قحط أدبي بالنسبة لي، فقد كان عليّ أن أحلل الكثير من النصوص، وبالتالي علي أن أفكر بطريقة منطقية لا خيالية، ورأيت أني يصدق علي ذاك الافتراض الذي يقول إن الأكاديمي لا يمكن أن يكون أديبا، يمكنه فقط أن يكون أديبا فاشلا!
كتبت عددًا محدودًا جدًا من القصص القصيرة خلال تلك السنوات، ولكنني في الجانب الخلفي من ذهني كنت قد قررت كتابة رواية عن الأصفهاني والأغاني، ولم أقرر أي شيء آخر حولها.
ما كنت كائنًا شعريًا، ولكن، بين الأبحاث والشعر، فجر اليوم ما قبل الأخير من سنة 2007، كتبت نصًا، وكأن ثمة من يمليه عليّ إملاء، دونته أولًا على الجوال، ثم نقلته إلى ورقة منفردة، ثم قررت أن هذا النص سيكون مفتتح روايتي، التي اتخذت فيما بعد عنوان «ماء الورد».

* * *

لاحقا، ظهر الأصفهاني في الرواية فعلا، ولكن ضمن استراتيجية سردية غروتسكية، هي إهانة البطل. لقد كان في الأربعينات من عمره لما جرت أحداث سرقة الحجر الأسود، وقد قررت أن أجعله سارقا، وأن يكون صاحب كتاب الأغاني الحقيقي هو جد ليلى، بطلة الرواية، والأصفهاني هو من سرق الكتاب من جدها لينسبه إلى نفسه.

رواية مقتل بشار بن برد غير البهيجة ظلت تحفر في ذهني حفرًا متعددة

أما تفاصيل مقتل بشار بن برد التي تتشابه مع موضوعات (الموت المرح) وهو من مفردات الغروتسك الأدبي، جعلتُ ليلى هي من تكتبها من وحي خيالها فقط، وتدسها في كتاب جدها، في زمن سابق على أحداث الرواية.

 

(3)

إنني أدين بالكثير للغروتسك، ابتداء من القلعةـ، التي تنتمي إلى الغروتسك القوطي، مرورا بقرود الجحيم التي تعبث بصحائف البشر في المخطوطات الأوربية القروسطية، جاءت في (ماء الورد) موكولة بتعذيب ليلى، حين جاءتها مرة في المنام لتعذبها بشق فمها، ومرة حين يخرج من أفواه هذه القرود تنانين ذوات 7 رؤوس.
لوحة جوليان للرسام الياباني هيروشي فورويوشي والتي بدا لي أني أشكل طبقات القلعة وأحداث الرواية كلها فوقها، الحس الطفولي والقوارير والسموم والألعاب والرؤوس والتماثيل المقطعة والأجساد المسندة.
أبناء الوالي مشوهو الخلقة وشديدو الأناقة، ذوو الأنفة، استوحيت عباءاتهم ومسماهم من لوحة الفنان السوري سبهان آدم، رأيتها في الكويت، متداخلة مع قصة أدجار ألان بو (قناع الموت الأحمر).
شخصية قسورة، كنت أريد أن أصنع شخصية تكون بمثابة تمثيل بشري لمصطلح (الضحك الشيطاني). أو ما بدا لي بأنه شيء يشبه الشيطان الحزين أو The Fallen Angel، وهو مصطلح إنجيلي عرفته من لوحات بروغيل الأكبر الذي ارتبطت أعماله بالغروتسك.
لقد كان المصطلح في أول ظهوره يدل على نماذج تركيبية من عناصر متعددة كالإنسان والحيوان والجماد، لتشكل هيئات ومخلوقات غرائبية، لكن هذا النوع التجميلي الزخرفي سيتراجع ليحل محله المبدأ التركيبي نفسه، ولكن على نحو قبيح ومنفر ومشوه، القبح المترف الذي يثير الانتباه من شدة بحه، ويبقي المصطلح على فكرة المشاعر المتضاربة التي يثيرها لدى المتلقي، وانتقل المصطلح من الفن إلى الأدب ليكتسب أبعادًا ويتقاطع مع مصطلحات أخرى.


لم يكن بإمكاني خلق بشر برؤوس حيوانات بالطبع في الرواية، لكن الهجاء كان من غايات الغروتسك البينة أيضا، فهجوت الوالي والواشي، بأن جعلت الأول يشبه وجه عظاءة، بينما للثاني وجه عنزة.

 

(4)

سيدنا الأخيفش، اخترت أن تبدأ الرواية بمقتل هذا المسكين، ولأنه مسكين فلسوف تنكشف فضائح المدينة من بعده. لقد كانت شخصية الصيدلاني/ صاحب القوارير والعقاقير والأشربة، مستوحاة من جابر بن حيان، الكيميائي، أما مقتله مسمومًا، فهو من خبر مقتل الشاعر العباسي ابن الرومي، الذي مات مسمومًا ولم يعرف قاتله.

مفتونة بالقلاع وأتخيلها على الدوام مكانا مليئا بالأسرار والغموض

في حين فكرة السم المزروع في الحديقة، فقد كانت من فيلم وثائقي عن السموم، ذكر فيه أن عائلة مديتشي كانت تزرع السموم في حدائق قصورها، ولسوف يسمي عابد حديقة بيت الأخيفش بحديقة مسيلمة الكذاب، حيث كان يزرع السم وسط النباتات الأخرى البريئة، ثم يقطره ويضعه على الرف خلف قوارير الماء.

 

(5)

القلعة، المكان الذي جرت فيه بعض أحداث الرواية، لقد كنت دوما مفتونة بالقلاع، وأتخيلها على الدوام مكانا مليئا بالأسرار والغموض. قلعة صلاح الدين/ الكرك في الأردن، كنت قد سمعت أن فيها طبقات سفلية سرية، من يدخلها لا يخرج منها، زرت القلعة أيام دراستي، وأعجبتني الفكرة.
لقد بدت لي القلعة صعبة وموحشة لا لذاتها، وإنما للطبيعة الجبلية الصعبة المحيطة بها، وكانت قاسية بالنسبة لي، الجبل والسفح والوادي والشجر، أما الطبقات فقيل لي إنها لم تكن سجنا، لا أعلم الحقيقية وإن بدا لي الاعتقاد بأن لا سجون تحتها ليس إلا تفكيرا طوباويا.
لكن هناك تفصيلًا آخر، كنت قد زرت قلعة Hohenwerfen في النمسا، وهي قلعة جميلة على جبل أخضر بين جبال خضراء، تنزل إليها الغيوم، لكن ما لفتني فيها هو مساحة خضراء كانت تستخدم للصيد وللتدريب، فسحبت منها هذا التفصيل لأضعه في قلعة لظى، من أجل غزال الخازن.
كانت قلعة جميلة ورومانسية تحيطها الغيوم، لكنها بدت لي مسطحة بلا أسرار.
كان الغزال تفصيلا حنونا وسط القسوة، لقلب الخازن الرقيق، والمصاب بالقهر. نهاية الخازن أيضا كانت مؤلمة لي، لكنها ضرورية، فهي لعنة الظلم ولعنة الدم الفعلية. وهي مآل كل مدينة تسمح بالظلم، أن تصاب بالخراب.

كنت أريد أن أصنع شخصية تكون بمثابة تمثيل بشري لمصطلح “الضحك الشيطاني”

الغزال نفسه جاء من لوحتين، الأولى لوحة الرسول لفريديك بريدجمان، وهي مشابهة للوحته الأخرى التي يظهر فيها غزال آخر (الفِناء) التي استخدمتها لغلاف كتابي النقدي/ رسالة الماجستير ارتباكات الهوية: أسئلة الهوية والاستشراق في الرواية العربية – الفرنكوفونية.
أما اللوحة الأخرى التي أخذت منها المشهد نفسه فهي لوحة العربي وحصانه لجان ليون جيروم.

* * *

إن السجون حقيرة ولئيمة، لكن مهندس جسر التنهدات في قصر الدوق في فينيسيا أكثرهم لؤما بالنسبة لي، حينما زرته فهمت كيف يكون ذلك، أردت أن أصنع سجونا لئيمة أنا أيضا ما دام الأمر لا يتجاوز الخيال.

ـــــــــــــ
– روائية وأكاديمية قطرية صدرت لها:
– ماء الورد “رواية” 2016.
– المراجم (مجموعة قصصية)، 2011.
– ارتباكات الهوية: أسئلة الهوية والاستشراق في الرواية العربية – الفرنكوفونية (دراسة نقدية)، 2007.
– الطوطم (مجموعة قصصية) 2001.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 60

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى