الخوف من الجمال

هل كان المتنبي خائفًا حين خرج عليه قاتله؟ ربما لم يسأل أحد هذا السؤال، أو لم يخطر بباله، إذ أن قتل المتنبي في حد ذاته محنة تتجاوز السؤال عن الأسباب، هل كان مترددًا بالخوف يبحث عن نجاة ما، لولا أن ورطه ابنه الورطة التي أودت بحياته، وهو القائل: كم جاءني الخوف مما كنت آمنه، وَكَمْ أمِنتُ التي قَلبي بِها يَجِفُ.

ولدت في بيئة خائفة مخيفة، مطر دائم لأربعة أو خمسة شهور، لا كهرباء، لا طريق واحدًا معبدًا ولو في الأحلام، طين يغمر كل شيء كأنه يذكّر البشر بسيرتهم الأولى والأخيرة، كان الكلأ قليلًا أو يحتاج لجهد كبير، يحتاج ألا تخاف الموت، أو تعيش بقلب ميت، لم يكن أحد يضمن رجوع أحد عند غيابه، كان الناس يقتلون بعضهم في صراع على لقمة العيش، ربما تطور ذلك بعد ذلك إلى القتل لامتطاء السلطة، لكن القتل كان لفعل القتل نفسه، بيئة قاسية وقلوب أقسى، كان الطير يعبر منطقتنا في طريقه إلى الجنوب طلبًا للدفء، في أسراب بديعة، وفجأة حين تتقطع سلالة الخيط الذي كان يسير فيه ويتفرق بغتة قاطعًا منظومة مبهجة، كان ذلك يعني أمرًا من اثنين، إما أن بعض الطيور قد تعاركت على حب طيرة من الطيور فقامت الحرب، أو أن جريمة قتل حدثت تحتهم فتفرقوا بهذه الطريقة المريبة.

رأيت الذئاب تمرح على حياة عيني، كانوا يقولون عن منطقتنا: المكان الذي يدلل فيه الذئب ابنه، كانوا يظهرون في رهط  رغم أنهم يصيدون فرادى،  لكن الخوف لم يكن منها على طول الخط، كان الخوف الحقيقي متبادلًا بين البشر تراه واضحًا في أعينهم.

يخرج الرجال بالخوف في عيون النساء المرعوبات، تنخفض الأعين وتنطلق الألسنة خلفها، ما من أغنية كانت مبهجة على الأرجح، كانت كلها تقريبًا ناضحة بالخوف وفي ألطف الأحيان كانت بالشجن.

لا أظن أننا ولدنا خائفين، أو أن الخوف جين نتوارثه، لكنه الحقيقة  الأكثر وجودًا وتجسيدًا،  ينتظرنا عند أول خروج من الغرفة، يلاحقنا كالعفريت، لاحقتنا الأمثلة” اللي يخاف من العفريت يطلع له”، خوفونا بطربوش العسكري، بالعصا الخيزران لناظر المدرسة، بالمدرسين، خوفونا من الفقر الذي كنا نخفيه خلف ملابسنا، من نسيان تحية العلم، كثرت المخاوف وكثرت عفاريتها، نساء العائلة يخفن رجالهن والرجال يخافون الحكومة وأحيانًا الموت، وفي النهاية قرروا تعميم الخوف كمادة أساسية.

في النص القرآني يبدو عظم مقام الخوف” ولنبلونكم بشئ من الخوف”، ” ولا تخافي ولا تحزني“

ورغم ذلك كان الخوف يبدو أحيانًا حارسًا أكثر منه تخويفًا،  بعض الناس تخاف على الناس، مثل قطط تحمل جراءها في فمها لتحميها، ربما كان الخوف بسبب الحب، وربما كان منبعه المواويل والأغاني، تصنع الأغاني جزءً كبيرًا من وجدان الناس، إنظر إلى أم كلثوم تغني: ” بخاف عليك وبخاف تنساني” سوف تجد أن الخوف أظهر وجهه الجميل، ستتأكد من ذلك حين تغني فيروز بعد عبد الوهاب: ” خايف أقول اللي في قلبي، تتقل وتعند وياي”

ما أجمله من خوف، لكن ذلك يسحبنا لسؤال هل للخوف وجه جميل؟

حتى ولو كانت الإجابة بنعم، لكننا في الحقيقة عشنا بالخوف في عالمنا العربي أكثر من غيرنا، ربما نحن جبناء على الأرجح إلا قليل منا، نهشتنا السلطة على مدى تاريخنا، بل ومزجنا الخوف مع الطعام، لم يخف بشار بن برد وذهب بقريحته في البعيد فصنع منه المهدي أول شاورما في التاريخ، يختتم سعدي يوسف قصيدته الموجعة عنه بقوله: نام المهدي عميقًا.

حدث ذلك مع الأسف لغيره، وتكررت الشاورما بمذاق آخر مع اختلاف التوابل، وربما كان ذلك ما عف عنه الكاتب المصري عزت القمحاوي في كتابه الفاتن عن الطهي والكتابة، لأنه يكشف وجهًا سيئًا للطعام أحد أجمل النعم التي طرحتها الحياة على الإنسان، حدث تخويف وصل لكل المعارضين في العالم على مر التاريخ، الطغاة يقتلون ويعذبون، غير أن أحدهم تجاوز ذلك بخياله وأفعاله، بل صنع أفضل نسخة لجمهورية الخوف في التاريخ، جعل الأخ يخشى أخاه، الجار يخاف من جاره، الصديق من الصديق، الزوج من زوجته، لكنه سجل اسمه في موسوعة جينيس/ ثقافة التخويف/ باب التخويف، شفط الهواء من الجو للدرجة التي أخافت الشياطين.

حاولنا مع الخوف، حاولنا أن نتخلص منه ولو بالقتل، حاولنا ولو بالشعر، لكن يبدو أننا فشلنا، صلاح جاهين شاعر العامية الكبير يقول في إحدى رباعياته “سهير ليالي وياما لفيت وطفت، وفي ليلة راجع في الضلام قمت شفت، الخوف كأنه كلب سد الطريق، وكنت عاوز أقتله بس خفت، وعجبي”.

ليس جاهين وحده، بل على لسان الشعراء والكتاب والفلاسفة في العالم، يرفع برتراند راسل رايته ضد الخوف، يقول: ن الخوف من الحب خوف من الحياة ذاتها، والخوف من الحياة ثلاثة أرباع الموت، ويصور دستوفسكي خوف أحد أبطاله بالقول: ظل يخشى أن يكون تحت الأزهار أفعى.

كان الأبنودي يرصد الخوف وكيف ينال منه لسنوات وهو الذي عاش يخشاه، في قصيدته الشهيرة، الأحزان العادية يقول:” وفجأة هبطت على الميدان من كل جهات المدن الخرسا ألوف شبان، زاحفين يسألوا عن موت الفجر، استنوا الفجر ورا الفجر، إن القتل يكف، إن القبضه تخف،ولذلك خرجوا يطالبوا بالقبض على القبضة وتقديم الكف”.

لكن الشعراء ليسوا خوافين على طول الزمن أو يجب ألا يكونوا هكذا، كان نجيب سرور انتحاريًا أو هو الصورة التي عاشها و رسَخها للشاعر، يقول: قل ما تريد لمن تريد كما تريد، ولم يكتف بذلك بل كأنه كان يرى مصيره: لو بعدها الطوفان قلها في الوجوه بلا وجل.

بل أعلن دستوره تجاه الخوف: الخوف قواد فحاذر أن تخاف.

لم يكن وحده،  عاصره أمل نقل بندائه الشهير: من قال لا في وجه من قالوا نعم.

في النص القرآني يبدو عظم مقام الخوف” ولنبلونكم بشئ من الخوف”، ” ولا تخافي ولا تحزني”.

“الخوف مسلم”، يقول العامة، كأنه يجب أن نخاف لنسلم من الأذى، لكن يجب ألا نخاف، الخوف يجعل المدير باطشًا، ويسهل للطغاة طريق السيطرة، يصنعونه هم، يجعلهم آلهة على الحياة، صنعته أميركا على مدى سنوات طويلة، صنعه من جعلنا نعيش به تحت وطأة سنين الكورونا الأخيرة، لكن الأمرّ أنه  يقتل الحياة بل يقتل الحب، ويا لها من خسارة.

يخاف الناس من الحب أحيانًا، يخافون الفقر والذل، يخافون السلطة، لكن المصيبة أن يخافوا من الشعر

غير أن للخوف أحيانًا وجه لطيف أو ساخر كالحياة، المتتبع لسيرة العرب في الجاهلية يجد أنهم استخدموا كلمة  لصوص للإشارة إلى مجموعة من الشعراء كانوا ينتمون إلى قبائل مختلفة، عصوا قوانينهم، قفزوا عليها و أصبحوا خارجين عنها ، كانوا شعراء كبارًا كتبوا شعرا فاتنًا، لكنهم اعتادوا على غزو القبائل وسرقة القوافل، كانوا متشردين قادوا حياة ثورية، ربما وقفوا ضد الفقر والخوف، باحثين عن الحرية. صوروا حياتهم في الشعر، صوروا السرقة أو النهب، في الواقع، كانوا يعتبرون أبطالًا من قبل العرب قديمًا، و أي قبيلة تتمنى لو كان أبناؤها من الشعراء اللصوص التي تخيف بهم قبائل أخرى، بل يشعرون بالفخر والإعجاب بهم.

يخاف الناس من الحب أحيانًا، يخافون الفقر والذل، يخافون السلطة، لكن المصيبة أن يخافوا من الشعر، بغياب المتنبي نقص المشروع والمعنى، والمصيبة الموجعة أنه ربما لم يكن خائًفا، بل يذهب البعض في تقصي الموضوع إلى أن من قتله كان هو الخائف، ليس خوفًا من الشاعر في حد ذاته، فالمتنبي لم يكن فارساً ولا محارباً ولا حاذقاً في فنون الحرب، لكن قاتل المتنبي على الأرجح كان خائفاً من الشعر، من انتشاره ومن تناقله على الألسن هو وغيره من الشعراء الذين كانوا مخيفين بالمعنى الجميل للشعر وقوة الكلمة في سطوره، قاتل يخاف  الشعر ويخشى انتشاره، وهو ما يناقض الطوية والروح السليمة، لأن الشعر هو رديف الجمال والطمأنينة، وليس رديفاً للخوف مهما كان.

**المصدر: مجلة الجسرة الثقافية. العدد: 62

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى