إلى المتمرد زياد رحباني

حين ظهر ألبومك “بما إنو” كنت بالصدفة في بيروت، حملته معي إلى القاهرة، وضعته في جهاز إحدى الكافيهات الكبيرة التي كانت تعج بالشباب خاصة البنات، صرت أنت السؤال وصرت أنا محط السؤال، كان عليَّ أن أُخرج لهم صورك الغريبة التي أحبها وأن أحكي أيضًا عن وسامتك من وجهة نظري، وتطلب الأمر كثيرًا أن أغني صرختك “أنا مش كافر”، للجميع، كنت أغني بسعادة لي ولك وبوجع الأغنية، تركت كتابتي وجلست معظم وقتي أحكي لهم من أنت، ماذا غنيت من قبل، كيف أعدت عفريت الموسيقى إلى علبته وصنعت عفريتًا جديدًا.

ليس معنى ذلك أنك لم تكن معروفًا، لا، الحقيقة أنت تعرف مثلي أن المصريين مشغولون بأنفسهم، يعتقدون أن العالم بدأ منهم وكل شربة ماء أو صولو موسيقى لا بد أن ينبع من أذرعتهم أو عروقهم، علمًا بأن الوقت الذي صدر فيه الألبوم كان من أحط الأوقات في الغناء المصري، وللأسف لا زال، غير أن الشوفينية ليست حكرًا علينا في الحقيقة، فالشعوب العربية تقريبًا على المنوال ذاته، بذات التعصب الذي لا ينفد، ولعلك تذكر ذكاء عاصي الرحباني حين كان يقول: “المرحلة الوهابية، نسبة لمحمد عبدالوهاب بالطبع”.

فيروز

المهم، وحتى لا أطيل عليك، قمت بنسخ مائتي سي دي من الألبوم، ولا أعرف من منا يستحق أن يأخذ المصاري من الآخر، حملت صوتك ورأسك معي في كل بلد حللت به من الخليج إلى المغرب العربي، مؤمنًا بشكل شخصي وأنت سيد العارفين بأن الإيمان شئء شخصي جدًا خاصة أنك مازلت تبحث عن الله، الحقيقة ما من مرة استمتعت بالتعب قدر استمتاعي بأن أكتب نصًا جميلًا أو أن أبث أغانيك عبر إذاعتي الخاصة وأن أغنيها في الحفلات المنزلية خاصة في تونس، صحيح أن صوتي أقرب للمؤدين، لكنني مؤدٍ ممتاز حسب رؤيتي لنفسي، طبقتي ليست بخشونة وعمق طبقتك وحنونة بعض الشئ- تجاوز عن هذه بالله عليك واستمتع بالمفاجأة العظمى- حين وصل شريطك إلى يد وعين وعقل وقلب إدوار الخراط، وهو كما تعلم عراب “الحساسية الجديدة” التي أعتقد أنك أولى واحد بها، بل أنت صانعها الحقيقي في العالم العربي قال بفرح وبغبطة وتقدير: “ياريت تبعت لي حاجاته دايمًا”.

أنت لا تعرف من أين تأتي الموسيقى، ربما لا يعرف أحد أنك تعمل تحت الضغط، الناس يريدونك أن تعمل دائمًا للمجتمع رغم أنك في حالة عزف متواصل، وأنت تقول: لست تشيكوف ولا أملك هذه الغزارة، تريد الموسيقى وكفى، تكره كلمة “فنان”، ولم تشرح السبب لأنه معروف، كل من طلع لنا طلعة يقولها عن نفسه، وكما تقول: كلمة كبيرة ومطاطة، بل إنك اعترفت بشجاعة أنك حين تكتب المقالات لا تكتب الأغاني.

في كل الأوصاف التي قيلت عنك “ثائر، موسيقي، مسرحي، سوف يتبقى لي دائمًا لفظ المتمرد الذي وإن أخذ من موسيقى عاصي لا يستطيع أحد أن يقول إنها له، ومهما كتب منصور فستبقى كتابتك وحدها.

عمار الشريعي

أعرف أنك تكره الجرافيتي، تقول جيل لا يعرف ماذا فعل غيره، لا يعرف ميراثه، وبلهجتك الطبيعية التي تبدو للآخرين سخرية”يروحوا يجيبوا المي يسقوا العالم بدلًا منه”.

السؤال الذي يطاردك دومًا لماذا لا تتزوج، ربما لا يتخيل أحد أن ثلاثة أرباع الوقت الذي تقضيه مع السيدة فيروز ينقضي في هذا السؤال: تزوج يا بني. هي تخشى على العائلة من الانقراض، وأنت تجيبها أن الديناصور نفسه انقرض.

“”تزوج يا بني”. فتزوجت دلال، وحين انفضت العلاقة انتقمت منها انتقامًا موسيقيًا بارعًا ولطيفًا وكتبت الأغنية التي ستعيش طويلًا “مربى الدلال”، بل كتبت لها رسائل تسألها عما إذا كانت موفقة في العلاقة مع رفيقها الجديد، وبكل حنو العالم تطمئن عليها في آخر إحدى رسائلك: “ديري بالك ع حالك يا حمارة، أنت حمارة”.

أنت تُشْبُهُ لبنان، بل ربما أنت أكثر من يشبهه، أنت مغارة جعيتة، يعتقد كثير من اللبنانيين أنك ابن لحظة بلدك ثانية بثانية، أو يريدونك هكذا

أحببتُ علاقتك بكارمن لبس، خمسة عشر عامًا تنتظرك، وأنت تعدها بأن الحال سوف تتغير، البيت والوقت والدلال، استغربت أن كارمن لا تعرف أن الموسيقى تنبع من بين يديك ولست في حاجة لواحدة تحاسبك كما يحاسبوننا، لكنها قالت جملة وجعتني: أنا أحببت زياد الشخص لا الفنان، ذلك الذي تناولت معه قهوة الصباح خمسة عشر عامًا.

يا زياد، أنت تعترف أنك لا تصلح للزواج، وتقول بشجاعة إنك أنت السبب في الفشل، ولأنك لا تحبه فأنت تقول إن باقة الفشل أرخص من باقة البقدونس، وأن المطلقات يفهمنك أكثر، وأن الحياة لا تحتمل الافتراض، والقلب لا يجب أن يظل خارج العقل، ثم تغني “من مرا لمرا، رح نرجع لورا”.

تفعل ما لا يجرؤ فنان أو كاتب أو سياسي في العالم على الاعتراف به، ولن يصدق أحد بسهولة أنك سجلت بصورتك في موقع تعارف للزواج، وأنك من قلت ذلك، إلا أنك مازلت تتعجب من جرأة بنت تصادفك أو تكتب لك: أريد أن أتزوجك يا زياد، إلا أن هذا طبيعي جدًا للمديوكر، ما بالك لك.

أعرف ذلك وأعرف أن الكثيرين ينتحلون اسمك كل شهر مرة على الأقل، يسجلون مواقع باسمك ويتقوَّلون عليك بما لم تقل، وإن كنت أحببت بعض هذه الانتحالات، لا يكفيك أن تكون قائدًا، بل زعيم، فالقائد كما تعلم يجعل الناس تثق به، أما الزعيم فيجعل الناس يثقون بأنفسهم إلى درجة الانتحال والاحتيال.

عاصي الرحباني

ذهبت لإدارة مكافحة جرائم الانتحال وحكيت لهم القصة وأن أحدهم يريد أن يبيع لك موقعًا باسمك بخمسة عشر ألف دولار، وحين سألك المُحيطون عن رد الإدارة، أجبت بسخريتك المعتادة وببعض الغيظ: “شربونا فنجان قهوة”.

فلينتحلك من يشاء، أنت المصنف رقم واحد دائمًا، تسخر منا ومن حالك، وبيني وبينك أنت أيضًا تفعلها بشكل آخر، تمر على الفيسبوك بأسماء مستعارة بتعليقاتك اللاذعة، ثم في لحظة جنونك تغير الاسم المستعار، كأنك بهذا تقول إنهم سيكتشفون أنه أنت.

أنت منزعج بشكل واضح من “السوشيال ميديا”، تريد مرجعيات راسخة، رغم أنك لا تثق بالسياسة في لبنان أو العالم العربي أو العالم كله، لا “واتس آب” عندك، فنظرية المؤامرة حاضرة بقوة، تكره العولمة وتحب العلمنة الشاملة، وتؤمن بأن أشهر شركة تجسست على الجميع هي شركة إسرائيلية، – حتى على هاتفي ميركل وماكرون-وأمريكا سيدة المؤامرات لدرجة أنها ترفض أن تمنحك تأشيرة دخول، تقول ذلك وتؤمن به، وليس صحيحًا كما يعتقد البعض أن كل شيء مخطط ومدروس فيها، وأضحك حين تقول إن انتخاب ترامب كان نعمة، لأن الأمريكيين اكتشفوا أي رجل ساذج انتخبوه.

أضحك كثيرًا، أضحك معك وأشفق عليك وأنت تصف حيرتك حين كنت تعود من المدرسة ابن الأربعة عشر عامًا لتجد الخناقة اليومية بين عاصي وفيروز، المُثير أنهما كانا ينتظرانك وأنت تعتقد أن دورك أن تحكم بينهما، لكنك اكتشفت أنهما كانا يتمسحان في بنوتك كي يخف العراك أو يمتد ولكن بوتيرة أخرى.

أعرف أنك أقرب لعاصي، لكن هناك جحافل تقف مع فيروز، بالله عليك استمع لكلامها، لا تخربط كثيرًا ولا تثرثر عما قالت أو فعلت، حتى لا تقول لك مرة أخرى إنك مثل “بائعة حب” تنقل الأخبار، ولا يختبئ سر في فمها، المسافة التي احتفظت بها فيروز بينها وبين الناس هي من صنعت صورتها التي نعرفها، لا صورتها الإنسانية العادية، فيروز في الحقيقة عكس ما يظهر، لديها خيال ولسان ساخر وبنت نكتة، اسمع لها، فكما قلت أنت: فيروز تلحن وهي تغني.

لا تحب أن تقول رأيك في المطربات، “لسانك عاطل”: واحدة عندما تغني يجب أن نستدعي لها قائد الجيش، وألا تسمع فلانة صراخها، ألا تهرب من صوتها وتترك المسرح، وواحدة تحكم على أصوات جديدة تغني أفضل منها.

وديع الصافي

زياد: أنت لا تحتاج عباءة تفردها ليخرج منها آخرون، فرق غنائية كثيرة تنحت منك وتحاول أن تلعب لعبتك ولكن بمضارب خشبية، مضارب تنس ليست أصلية، لا تشغل بالك، ربما المشكلة في هؤلاء الشباب الذين يعتقدون أنها موجة جديدة لأنهم لم يسمعوك، ومنهم ابنتي، وحين تقدمت منك واستمعت لك صارت أغنية “حرف الشين”مقررة علينا في الصباح والمساء.

ربما عرفت أن عمار الشريعي حين كان يقدم أغنية أو مقطوعة لك يقول: الآن سوف نسمع الشرقي الذي ليس غربيًا، والغربي الذي ليس شرقيًا، “زياد ده إيه، زياد ده ابن مين، ثم يسبك من فرط اعترافه بعبقريتك.

زياد: رسالة واحدة لا تكفي فيما بيننا وما ليس بيننا، فقط أقول لك:

أنت تشبه لبنان، بل ربما أنت أكثر من يشبهه، أنت مغارة جعيتة، يعتقد كثير من اللبنانيين أنك ابن لحظة بلدك ثانية بثانية أو يريدونك هكذا، وعند البعض ابن اللحظة التي تمتد في الزمن، لأنها غنت واجترحت الموسيقى والكتابة لكل حجر في بلدك، لكل ثائر ومُهمش ومُستضعف في الكون، حسب ما تعتقد أنت وأعتقد معك في الأممية، وصدقني في الساعة التي ستُقدم فيها الأمم ما أبدعته في الكون، في اللحظة ذاتها التي يتقدم فيها لبنان ليضع أمام الجمع ما صنعه في الموسيقى والغناء، ستكون هناك ساحة لكُتاب الأغاني يتقدمهم ميشيل طراد وطلال حيدر، وجوزيف حرب رغم عشقه للاستبداد وربما لخوفه منه، سيفرد لبنان ثلاثة أذرع، في اليمنى فيلمون وهبي وفي الكف الوسطى يصدح وديع الصافي ويتألق صوت صباح مضاهيًا العالم ببهجته، أمامهما تقف السيدة فيروز تغني”سلم لي عليه، وحين يعتقد الجمع أن العرض انتهى سوف تهيج إلى أسماعهم أصوات قادمة من بعيد، يحدس كل من حضر العرض أنها موسيقاك، بعدها يظهر وجهك الساخر من كل ما حدث.

في هذه اللحظة التي تُقدم فيها الأمم ما فعلت، ستظهر أنت باعتبارك صانع الموسيقى القادمة من المستقبل.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 60

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى