أحوال الكائن الخائف

لكلّ منّا، نحن أبناء هذه الجغرافيا المنكوبة، ملفّه الضخم لدى البوليس. تغذيه شبكة من المخبرين بإنشاء سقيم ينتهي إلى تهمة ما، غالباً ما تكون تهمة ملفّقة تضعك في مهبّ الخوف: أن تُستدعى إلى أحد هذه الأجهزة الغامضة تحت مسمى “فنجان قهوة”،  في المسافة بين الاستدعاء وموعد التحقيق، ستعيش رعباً حقيقياً بألّا تخرج سالماً. أن تختفي داخل زنزانة في قبو مظلم وعفن!

الخوف نفسه ستعيشه في المطارات والمراكز الحدودية، بانتظار أن يتناول الموظف جواز سفرك، ثم وهو يفتش عن المعلومات التي تخصّك في جهاز كمبيوتر أمامه. ثلاث دقائق تبدو كما لو أنها دهراً، سيرتفع منسوب الادريانين لديك تبعاً لتعبيرات وجه الموظف. النظرة الذئبية من وراء الزجاج لمقارنة صورتك في الجواز مع وجه الكائن الشاحب بكامل اضطرابه الذي هو أنت، ثم حركة يد الذئب الضجر نحو الخاتم وهو “يطجّه” بالموافقة أو مراجعة فرع الأمن، وفي أفضل الاحوال (ممنوع من السفر). تتأمل الكونتوار الطويل باضطراب متوقّعاً أن تُحجز وراء أحد الأبواب، ريثما تنتهي الإجراءات بسلام.

هناك أيضاً مباغتات الحواجز الأمنية، حين يصعد ثعلب مرقّط إلى الحافلة يتفقّد الركّاب بحثاً عن طريدة. تتوقع أن تكون الضحية فيأمرك- وهو يتأمل بطاقتك الشخصية- بأن تنهض من مقعدك خارج الحافلة بقصد “تفييش الاسم“

هناك أيضاً مباغتات الحواجز الأمنية، حين يصعد ثعلب مرقّط إلى الحافلة يتفقّد الركّاب بحثاً عن طريدة. تتوقع أن تكون الضحية فيأمرك- وهو يتأمل بطاقتك الشخصية- بأن تنهض من مقعدك خارج الحافلة بقصد “تفييش الاسم”. قد تتعلّق الشبهة بمكان ولادتك أو الاسم العائلي الذي تنتسب إليه، ليتبين الأمر بعد أيام أنه مجرد تشابه أسماء، لكنك أثناء هذه المتاهة الجهنمية سترتعد فرائصك  طويلاً)ارتعدت فرائصه: فزِع، خاف خوفاً شديداً. شكا فريصَته: تألَّم من عضلته الصَّدريّة(. وستعيش كابوساً متواصلاً، فأنت متهم مؤجل بقضية لا تعلم ما هي تماماً، كما لو أنك شخصية في قصة لفرانز كافكا أو جورج أورويل.

هذه الإحالة تبدو ضرورية بالنسبة لمن يعمل روائياً، الكائن الذي يعيش خوفاً مزدوجاً، وهو يبني عمارته السردية، الخوف من الانزلاق إلى منطقة محظورة قد تودي به إلى التهلكة، والخشية من ارتكاب حماقة سيحاسب عليها. لذّة تظهير عبارة خشنة، ثم شطبها خوفاً من تفسيرات الرقيب، ثم المغامرة في إعادتها إلى المسودة بلحظة شجاعة مؤقتة.

على المقلب الآخر، ستخشى أن تفقد القدرة على استكمال مشروعك في الكتابة أو حبسة الكاتب، خوفك من مساحة البياض، من جفاف المخيّلة،  إلى أن ينتشلك أحدهم من بحيرة القلق، وليكن همنغواي على سبيل المثال” يحدث أحياناً أن أشرع في كتابة قصة ما ولا أتمكن من التقدم فيها. أقول لنفسي: لا تقلق. لقد كنت تكتب دوماً من قبل وستكتب الآن. كل ما عليك أن تفعله هو أن تكتب جملة حقيقية واحدة. جملة خبرية حقيقية بسيطة”. ما نفعله عملياً، في هذا السياق، هو التدريب على مواجهة الخوف، بتمرينات متواصلة: تهريب جملة مضادة، هتك مستور، تشريح حالة استبداد، خلع أقفال العفّة، فالخوف في أعلى درجاته يتمثّل في بطش السلطة من جهة، وخشية الفرد من مواجهتها بالاعتقال وهدر الكرامة، من جهةٍ ثانية. كان محمد الماغوط  أكثر الشعراء استعمالاً لمفردة الخوف، فمنذ اعتقاله في سجن المزّة العسكري أواخر الخمسينيات لعدة أشهر، ظلّ الرعب يطارده مثل وحش مفترس. يقول” الخوف؟ إنه الشيء الوحيد الذي أملكه من المحيط إلى الخليج. ولديّ في أعماقي احتياطي من الخوف أكثر مما عند دول الخليج وفنزويلا من احتياطي النفط”، ويضيف” ولدتُ مذعوراً، وسأموت مذعوراً، أنا مسكون بالذعر، وأي شيء يخيفني”.

على الأرجح فإن هذا النوع من الخوف يحتل مرتبة عالية في البلدان البوليسية، على حساب الأنواع الأخرى من الهلع والفزع والارتياب. أن تتوقع في كل لحظة وجود من يراقبك في الشارع أو المقهى أو العمل. أن تفزع من أصوات أقدام مجهولة تصعد سلّم البناية بصخب، إلى أن تتوقّف أمام أحد الأبواب، فتطمئن مؤقتاً.

والحال، أنت رهينة الخوف، منذ أن كنت تلميذاً تخشى أن تخطئ بحفظ النشيد الوطني أو جدول الضرب أو التحية العسكرية أثناء خدمة الجيش أو أن تداهمك أفعى بسبعة رؤوس خارجة من إحدى حكايات الجدّة إلى مناماتك، أو أن تجذبك جنيّة إلى أعماق النهر.  هكذا تتراكم طبقات الخوف أفقياً وشاقولياً، من الفرد إلى الجماعة، تبعاً لاستراتيجيات السلطة في تصدير حالة الذعر عن طريق عدوٍ خارجي أو وباء أو كارثة طبيعية بتفعيل آليات الضبط والمراقبة وتضييق الحريات. وهو ما اشتغل عليه ميشيل فوكو في أطروحاته الفلسفية  بخصوص اشتغال الأنظمة السياسية على تدبير الخوف والرعب لترسيخ سلطتها والاستحواذ على الجموع تحت بند ” نشر ثقافة الخوف”، والسعي لتحقيق “مجتمعات الضبط”، وفي حال فشلها تعمل على  تصدير سياسة التخويف من خلال آليات الرقابة والوقاية وإجراءات الطوارئ لرفع مستوى الرّعب، وكيفية إدارة الخوف لا الخروج الآمن منه.

في روايته” المدعو صدّام حسين فرحان” يرصد خضير فليح الزيدي سيرة جندي عراقي يحمل اسم  صدّام حسين فرحان، متتبعاً رحلته العجائبية، من معسكره إلى بغداد، حين يُستدعى إلى قيادة المخابرات العامة بتهمة مجهولة، ليكتشف متأخراً أنه مطلوب لمقابلة الرئيس شخصياً، بقصد تكريمه وضرورة تغيير اسمه، فالبلاد لا تحتمل اسمين من هذا الطراز، وفقاً لما قاله الرئيس للقرين المرتبك والخائف، وفي لحظة مغادرة الضيف القاعة، وأثناء تأدية التحية العسكرية سيتبوّل في سرواله لفرط انفعاله.

  ثلاث دقائق تبدو كما لو أنها دهراً، أمام النظرة الذئبية من وراء الزجاج لمقارنة صورتك في الجواز مع وجه الكائن الشاحب بكامل اضطرابه الذي هو أنت، ثم حركة يد الذئب الضجر نحو الخاتم وهو “يطجّه” بالموافقة أو مراجعة فرع الأمن

 أن تعيش في بلاد تعيش حرباً طاحنة، تتضاعف درجات الخوف بغياب القوانين التي تحمي سلامة الفرد، وإذا ببزة الكاكي تصبح مصدر قوة وبطش بدلاً من حماية الجموع. هناك خطر آخر، الخوف من سقوط قذيفة على بعد أمتار منك، من رصاصة طائشة، من قنّاص. الخوف من حوادث الاغتصاب والخطف والذبح بالسيف. كيف لنا أن نرصد لحظة الخوف القصوى للضحية، تلك اللحظة العبثية التي تفصل بين العنق وحدّ السيف؟ كذلك لحظة الإعدام بالرصاص، حين تُوجه فوهات البنادق نحو الضحية معصوبة العينين. كأن القَتَلة لا يكتفون بالعقاب، إنما يعملون على توثيق وحشيتهم بالصورة لتعميم الرعب على الآخرين، وتالياً الانتقاص من حريتهم بجرعات مدروسة تبعاً لحجم الخطر الوهمي، ذلك أن الدولة، وفقاً لما يقوله الفيلسوف جورجيو أغامبين “تحتاج إلى الخوف لترسي مشروعيتها على ركن قوي، عليها في هذه الحال إنتاج الرّعب أو تركه ينتشر من دون معوّقات”. ولكن ماذا بخصوص خوف المستبد؟  أن يخونه أحد من الحاشية باغتياله، أن يراقب طعامه خشية أن يدسّ أحدهم السمّ له في وجبة شهيّة، أن توضع مفخخة في عربته أو طائرته أثناء جولة تفقدية، أن يقنصه أحدهم خلال خطاب حماسي في حشد جماهيري أو حقنه بجرعة قاتلة ! يا لهذا الرعب المتنقّل من يومٍ إلى آخر، ذلك أن المستبد سينتهي بطريقة دموية غالباً، ومن حسن حظه أن ينتهي منفيّاً في مكانٍ سرّي  بحراسة مشدّدة خشية انتقام ضحاياه. أما ما تصدّره ورشات التنمية البشرية من نوع” لا تدع الخوف يسيطر عليك”، فهو لغو فارغ لا أكثر، إذ يصعب مجابهة القلق  والرعب من الغد أمام الفواتير الباهظة للعيش. يورد شكسبير في “الملك لير” الحوار التالي مختزلاً أحوال الكائن الخائف:

(- ألباني: أراك قد أوغلتِ في الخوف!

– غونوريل: هذا خير من أن أوغل في الطمأنينة).

**المصدر: مجلة الجسرة الثقافية. العدد: 62 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى