الذات.. سرديــــــّة فريدة للمخاوف

  احترامًا لأحلامك الواعية لاحتياجاتك
عندما تستيقظ، فلا تقفز من سريرك وكأن أحدًا عضّك،

 فكر قبل كل شيء بما حلمت به في نومك”

رسول حمزاتوف

في عام 1912 وفي جوابٍ موجه لجمعية البحوث النفسية في لندن، كتب الطبيب وعالم النفس السويسري سيغموند فرويد نصًّا قصيرًا بعنوان “تعليق على اللاّوعي في التحليل النفسي” جاء فيه: دعونا نطلق كلمة “واعٍ” على التصوُّر الحاضر في وعينا وما ندركه جيدًا، أمَّا بالنسبة للتصورات المستترة، فلنشر إليها بمصطلح “لا واعٍ”*

لن تتوقف نتائج هذا الاكتشاف عند نسفِ منجزات عقلانيـــّة القرن الثامن عشر، بل شكّلت مع نظرية كوبرنيكوس حول لا مركزيـــّة الأرض، وتصور دارون حول أصل الأنواع أقسى هزيمة لنرجسيّة الإنسان.

كان حلم الطفلة آنا – حين رأت أنها تعبر البحيرة التي منعت من قطعها ظهيرة اليوم السابق -نواةً لوالدها الطبيب النفسي وعالم الأعصاب سيغموند فرويد لصياغة نظريته في اللاّشعور الإنسانــيّ، وقدمت له الطريق الملكيّ نحو هذه البقعة من الرغبات والغرائز والمخاوف والخبرات والتي تقود داخل الذات حربًا ضاريــة تصل حدّ تهتك الشخصيّة، فتظهر آثارها في زلاّت اللسان والإسقاط والأحلام وصولًا للأمراضِ النفسيّة.

كان حلم الطفلة آنا –حين رأت أنها تعبر البحيرة التي منعت من قطعها ظهيرة اليوم السابق- نواةً لوالدها الطبيب النفسي وعالم الأعصاب سيغموند فرويد لصياغة نظريته في اللاّشعور الإنسانــيّ

في محاضرة له في الولايات المتحدة الأميركية عام 1909 طلب فرويد من جمهوره تخيّل شخصٍ مشاغبٍ في القاعة يتسبب في عرقلة المحاضرة، سيقوم رجال جريئون بحمله خارجًا، ويجلسون في الممر لمنع ظهوره؛ لكنه سيحاول باستمرار شق طريقه للقاعة التي تمثل الوعي؛ وبهذا المثال لخّص فرويد العلاقة بين مكونات النفس المتصارعة والتي تهدد الذات في حال تفاقمها بالمرض.

يشكل الشرّ جزءًا لا يتجزأ من بنية الغرفة المقفلة (اللاّوعي)، وثمة خطورة في مواجهة مكونات هذه المنطقة المجهولة، ويمكن قراءة “الرجل ذو اللّحية الزرقاء” وهي حكاية للأطفال مستمدة من التراث الفرنسي دلاليًّا، فهي تروي قصة رجل يبيح لعروسه الشابة حريـــّة التجول في القصر بأكمله، وفتح جميع الغرف عدا غرفةٍ واحدة إذا أرادت أن تعيش بسعادة، لكن ذلك لم يمنع فضول المرأة عن استكشاف تلك الغرفة المظلمة حيث الدماء والجثث.

إن اكتشاف فرويد يفتت الإنسان إلى ذواتٍ متعددة تسكننا، وهو يجد تعبيره الأدق في قصيدة الشاعرة إميلي ديكنسون:

لا يحتاج المرء إلى أن يكون حجرةً ليكون مسكونـــًا

لا يحتاج إلى أن يكون بيتًا

للدماغ مسارات تتجاوز ماديـــّة المكان.

أكثر أمانًا

مقابلة شبح في منتصف الليل

من مواجهة

مع الذات الداخلية الباردة.

أكثرُ أمانًا

الركض عبر كنيسةٍ

مطاردةً بالحجارة

عن مواجهةٍ غير مسلّحة مع النفس

في مكان واحد.

نفس داخل نفس هو ما يجب أن يخيفنا أكثر*

إن أبيات ديكنسون صياغة للسؤال الدائم حول قدرتنا على مواجهة مخاوفنا، وقدرة الوعي على فهم سطوة هذا الشيء المروّع في الأعماق، إذا كان الوعي ذاته بحسب هذه الرؤية أسيرًا لأفعال تخرج مسوِّغاتها عنه، كما أن ضريبة النكران فادحة.

وفي هذا الصراع يُجذبُ الأنا الواقعي في اتجاهين كمن يربط بين حصانين يركضان بعكس بعضهما، وهو الذي يسدد فاتورة الصراع بين ما هو أدنى: غرائزه ورغباته وخبراته وذكرياته:(الهوَ)، وما يفوقه: المثل والقيم التي تشكل الضمير (الأنا الأعلى).

وفي الأدب نعثر على أعمال تنبع من هذه الأنانية والتلبث حول الذات، بحيث تعمل قوة الكراهية والشرّ. وفي كتابات الماركيز دو ساد تعبر أشرس الرغبات عن نفسها بحرية، ومما قاله الراهب الخسيس كليمن لجوستين المذعورة: لو كنتِ الذئب ياتيريزا لتفهّمتِ المسألة.

يشكل الشرّ جزءًا لا يتجزأ من بنية الغرفة المقفلة (اللاّوعي)، وثمة خطورة في مواجهة مكونات هذه المنطقة المجهولة

بل يمكن الجزم أن الأعمال الفنيّة كانت منبعًا ثرًّا لفرويد في بحوثه على الأمراض والهلوسات والعُصاب والمخاوف؛ كرد فعل مقنع على هذا الكبت والقسر للذات. ويصف فرويد في كتابه “حياتي والتحليل النفسي” عواقب الكبت: “ففي المقام الأول يتعين على “الأنا” أن يحتمي من خطر دائم لهجوم يشنه الدافع المكبوت، الأمر الذي يقتضي منه أن يبذل جهدًا مستمرًّا، أي أن يطلق دومًا شحنة مضادة، وبذلك تنقص قوّته”.

يبدو تأثير (اللاّوعي)على اختياراتنا الجماليّة والحياتية أبعد مما نتصور، ما يجعل عبارة نوفاليس الذي كتب في ليلةٍ ماطرة “كل ما هو مرئي يقبع فوق خلفيةٍ غير مرئيّة، وما هو مفهوم فوق خلفيّة غير مفهومة، وما هو ملموس فوق خلفيّة غير ملموسة”، تمثيلًا دقيقًا لما يكون عليه قرارنا الواعي ورغبتنا المبهمة بأشياء يستحيل على الذات نفسها أن تعرف سرّ اختيارها أو رفضها أو هوسها بها.

في رواية “أصل الهوى” للروائية حزامة حبايب يُولَع أحد الشخصيات بشقيقة صديقه الشاحبة؛ إن ما يجذبه إليها مرضها ونُحولها، لنكتشف تاليًا أنّ مقياسه للجمال؛ تكوّن في لحظةٍ غائمة تضرب بجذورها في طفولة عذّبها مرض الأم التي قضت سنواتٍ عدّة قبل وفاتها شاحبةً وهزيلةً فوق سرير المرض؛ ومتأثرًا بهذه الخبرة الغائرة كجرح بحث عن شبيهة لها.

كذلك يمكن قراءة رواية “لوليتا” للكاتب فلاديمير نابكوف الذي توقف نضج بطله الجنسيّ والعاطفيّ عند موت صديقة مراهقته في سن السادسة عشرة، هذه الخبرة المؤلمة ستحكم ولع هذا الكهل الستيني بالصغيرات ورغبته المحرّمة والمحمومة بالاقتراب منهن.

يؤثر اللاّوعي في كل مناحي حياتنا الروحيّة والجماليّة، وتولد من هذه الغرفة المقفلة أعظم المخاوف وأعظم الأعمال الفنيّة.

والحلم وهو -الطريق الملكي-يعد إلى جانب المرض النفسي إشارة ضمن مجموعة كبيرة من الإشارات؛ ليس أولها ولا آخرها، بل ربما أغناها وأكثرها أهمية. وحيث يرغب اللاّوعي بالتعبير يتدخل الوعي ويرمّز ويقنّع ويشوّش على وضوح الصورة، فتيارات فنيّة كبيرة كالسرياليّة تدين في وجودها إلى كثافة اللاّوعي ونشاطه الحلميّ؛ باعتبار أن الأعمال الفنيّة العظيمة في جزءٍ كبير منها: سرديـــّة فريدة راويها هو اللاّوعي الفنان.

إن اكتشاف فرويد يفتت الإنسان إلى ذواتٍ متعددة تسكننا، وهو يجد تعبيره الأدق في قصيدة الشاعرة إميلي ديكنسون:

ويصف فرويد في كتابه “حياتي والتحليل النفسي” عواقب الكبت: “ففي المقام الأول يتعين على “الأنا” أن يحتمي من خطر دائم لهجوم يشنه الدافع المكبوت.

في الأحلام كلنا مبدعون وحكاؤون، نرمِّز حكاياتنا لتصبح أكثر تشويقًا وإمتاعًا وتحريضًا للعقل على تفكيكه؛ فالحكاية التي يؤلفها الحالم منبع ثرٌّ ومساعد مهم لعالم النفس لفهم الرغبات والصراعات والمخاوف.

وإلى اللاوعي تنسب أهم الاكتشافات المعرفيّة، منذ حلم سقراط حول معرفة الذات وصولًا إلى حلم ديكارت عن الشك كأهم ركيزة للعلم، فالريح العاصفة التي هبت في حلم ديكارت ليلةَ غفا بجانب المدفأة لم تكن سوى ريح الشك التي هاجمت باحة الكنيسة، والأخيرة كانت منفصلة عن الحياة، وتحولت إلى لغو وسفسطة؛ حيث لم تستطع تلك الريح أن تحرك الأردية الكهنوتيّة لرجال الدين الذين وقفوا يتناقشون في باحتها، إن الجزء الثالث من الحلم حيث -يرى فوق طاولته كتابين: الأول معجم والآخر مختارات شعرية، يقرأ فيها: أي سبيل من سبل الحياة أتبع-هو الأهم ومنه سيولد كتاباه: “مقالات في المنهج”، و”تأملات ميتافيزيقية“.

يمكن للاّوعي أن يزيل زيف الوعي والعادات عبر طرح الأسئلة، وأن يقود لاكتشاف ذاتنا الحقيقية أو أساليب قمعها المؤدية للصراع والمرض، وإن إخفاق دافع ما يحوله للنقيض، ومن هناك تأتي الكراهية ويأتي الفن ويأتي التطرف والحب.

إن وجود دوافع متناقضة تجعل الصراع مستميتًا أقسى من قدرة الإنسان على تحمله، وموت رغبة وقمعها يؤدي لانبثاق نقيضها، يزدهر الموت حيث يقمع الحب، وحين تمنع غريزة الحياة من التحقق تجد غريزة الموت الطريق سالكًا، لكن اللاوعي أيضًا منبع الحضارة والتطور الخلاّق.

تنتهي قصة “الرجل ذو اللحية الزرقاء” باكتشاف الزوج لفعلة زوجته وقراره ضرورة موتها، وكي لا تموت وعلى غرار شهرزاد تطلب وقتًا للصلاة، وهي مماطلة تنتهي لصالحها عبر قتل الزوج الذي يمثل الشرّ المطلق، بينما يرمز انتصار الزوجة لسيادة الأنا الأعلى.

هذا الحل الاعتباطي الذي يقوم على إنكار اللاوعي، بينما على العكس فإن الفهم ربما يبدو الأمثل لبناء الحضارة؛ اللاوعي يمكن أن يكون طريقة لتهتك الذات أو مصدرًا لنضجنا وتقدمنا فقط في حال فهمنا، وقبلنا ودون هذا الفهم سنكون عبيد دوافعنا ومشاعرنا اللَّاواعية.

تقدم هذه النظرية أفقًا حضاريًّا، بحيث تعتبر فهم الإنسان للمنطقة المظلمة من الأسس المهمة للتقدم، ما سيلقى نقاشًا حادًّا من أهم روّاد الوجوديّة، الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر والذي ذهب إلى أن فرويد بهذه الازدواجية “وتمييزه بين (ذاك) وبين (الأنا) قد شق الكتلة النفسية إلى نصفين. أنا هو أنا، لكني لست ذاك” بحيث تخضع عنده الذات لحتميّة أدنى منها، لمؤثرات لاشعورية تصنع قرارات الإنسان، ما يؤدي إلى ضرب المسؤولية الأخلاقية والقانونية والدينية، وولادة شخص لا يتحمل تبعات فعلٍ؛ محركه غير مدرك وغير واع، ومستمد من لاوعي مضطرب “مثقل بالتناقضات الأيروسيّة تارة والعدوانيّة تارة أخرى”.

يمكن تفهم هذا الرفض، لما يشكله من خطر على فكرة سارتر المركزيــــّة حول حرية الإنسان ما يجعله أسيرًا بيد مجموعة من القوى والغرائز البيولوجية. “ويبقيه دومًا في حالة دفاع”.

وبذلك يصير (الأنا) ضعيفًا تابعًا محرومًا من وعيه وحريته، وأن ما يقوم به المريض من أفعال محصلة مجموعة من القوى الماضية والخبرات والذكريات التي تتحكم به وتصادر حريته.

وفي الأدب نعثر على أعمال تنبع من هذه الأنانية والتلبث حول الذات، بحيث تعمل قوة الكراهية والشرّ، وفي كتابات الماركيز دو ساد تعبر أشرس الرغبات عن نفسها بحرية

إن التسليم برأي فرويد، يثير أسئلة كثيرة لخّصها سارتر في عبارته حول عجز التحليل النفسي أن يشرح لنا لماذا يختار أحدهم وخصوصًا مرضى العصاب والهستيريا أن يكون فنّانــًا بينما يقرر آخر أن يكون متصوّفـــًا أو شخصية سياسية يتقمصها، هذا الاختيار يُقرأ في أفق الحرية ويعيدنا إلى الفكرة الأثمن التي تفتقر لها نظرية فرويد -التي تقوم على الحتمية والخبرات الماضية-وهي حرية الوعي والاختيار الشخصي.

وبهذا فإن اختيار الإنسان لمرضه وأسلوب دفاعاته نابع من حريته ولن يتوقف اللاّوعي الفرويدي عن إثارة الكثير من النقاش، وفي كل حلم نراه ونؤوله مغامرة وجودية وإنسانيّة لارتياد هذه الجزيرة المجهولة والتي يحتاج اكتشافها لجهدٍ لا يكلّ، ولشجاعة في مواجهة مخاوفنا وآلامنا.

وبغض النظر عن قبول التحليل النفسي أو رفض رؤيته للإنسان لن يتوقف الفن والعالم عن تقديم رموزه وشيفراته وطبقاته التي لا تمنح نفسها بسهولة، وحيث يقيّد اللاّوعي ويُكبت تخسر الذات كينونتها الأصيلة، وكلما كان الكبت عنيفًا نتجت أمراض وتصرفات لا يمكن فهمها.

وحسب فرويد فإن فهم هذه الغرفة المغلقة يجعلنا نستفيد من أثمن مكوناته، فهناك مصنع الأحلام وقوة الخيال وغريزة الحياة في مقابل الموت، وإلى اللاوعي الفنان تنُسب الأفكار والآداب والابتكارات، وإليه تنسب الأمراض والانهيارات.

وإذا كان الوعي ضروريًّا كي لا تجنح سفينة الذات نحو الأعماق، فإن اللاوعي هو هذه الحريـــّة والتلقائية في الإبداع، وعلينا أن نترك له حرية التعبير عن النسخة الأصلية والأصيلة منّا، وأن نحقق أثمن طاقاته: أي الإبداع؛ فعبره يتحرر الإنسان من الذنب ومن الخوف بتصعيده وتحويله إلى عمل فني أُعدت بروفاته فوق مسرح الذات التي تقدم سرديتها الأوليّة فوق تلك البقعة المجهولة، أمام جمهور وحيد، وعبر مُخرِج قدير هو اللاوعي، وبطل أوحد هو الذات الرائيــــّة.

 إشارات:

-فرويد، سيغموند، قراءة عصرية، روزين جوزيف بير لبرج، تر: زياد إبراهيم، مراجعة شيماء طه الريدي، مؤسسة هنداوي، 2020.

– إميلي ديكنسون 1830-1886، تر: ضي رحيمي.

-كتاب الوجود والعدم، جان بول سارتر، انظر 288.

المصدر: مجلة الجسرة الثقافية. العدد: 62

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى