الكتابة على التخوم القلقة

تنبع غواية كتابة رسالة من قدرتها على التعبير عن العالم الجوانيّ والأعماق القصيّة، إضافة إلى اعتبارها وثيقةً أو شهادةً عن أدق خلجات الوجدان. ولا تقل عن ذلك جاذبيّة قراءتها فكم من رسائل لفلاسفة ومفكرين نالت شهرة تفوق كُتبهم الفكرية. إنّ الكتابة والقراءة هنا تقع بين قطبين يقرآن دلاليًّا (تعري / تلصص).

إضافة لبعدٍ رابع، يتمثل في كونها كتابةُ اللحظاتِ الحرِجة، التخوم النهائيّة التي تستعصي على الوصف ويعجز الراوي العليم عن تمثلها، لحظة انمحاء الحدود وتمثِّل الذات للعالم وإعادته مضاعفًا في الألم أو الخيبة أو العشق.

 وتكشف الطريقة التي يستوعب فيها التخييِّل الروائي تقنيّة الرسالة ويحولها إلى صيغة أدبية عن ثراءٍ لافتْ. بحيث تتجاوز إطارها التقليدي مرسل / مرسل إليه. إلى آفاق جديدة تجعل منها حيلةً سرديّة لغاياتٍ أبعد.

تلعب الرسالة دورًا يعجز الوصف التقليدي عن القيام به. وبسبب من لغتها العاطفية والمتدفقة فهي تساعد على متابعة حركة الشعور وهو يتأرجح بين البهجة والحزن

تشكل رسائل المذكرات واليوميات إحدى هذه الصيغ، من خلال توثيق التاريخ، فيدفع السرد بعضه بعضًا كالموج. ولعل رواية “آلام فرتر” للكاتب الألماني يوهان غوته هي المثال الأقرب هنا؛ وتدور رسائله إلى صديقه ولهلم حول شارلوت -وهي محبوبة غوته في الحياة الواقعية وفي الرواية. (علمًا بأن الرسائل لم تصل للمرسل إليها الحقيقية ولم تتلق أيًا منها فعليًا).

وتساعد الرسائل هنا على فهم أفعال فرتر فتعكس رؤيته الحادة للجمال والأسى وهي تُظهر اعتلال مزاجه والتوترات العاطفية والتقلبات المزاجيّة الحادة التي يعاني منها. إنَّ الرسالة هنا تلعب دورًا يعجز الوصف التقليدي عن القيام به وبسبب من لغتها العاطفية والمتدفقة فهي تساعد على متابعة حركة الشعور وهو يتأرجح بين البهجة والحزن إلى أن يهوي في الوحدة، يضاف له قدرتها على المواءمة وصهر الخارج والداخل عبر لغتها الجوانية. فيضاء الحدث بنور الشعور أو الفكر. وتتتابع الرسائل إلى أن نصل إلى تلك المؤرخة بيوم 27 اكتوبر “إني لخليق أن أمزق صدري غيظًا كلما فكرت في ضآلة قدرة كل منا على التأثير في مشاعر الآخرين،”إن ضمير المتكلم وهو الغالب على فن الرسائل يساعد على التقاط الذبذبات الدقيقة للوعي في حركته واضطرابه ورؤية الأحداث من داخل العقل (ملاذ الفكرة) وهي تمرر الحدث بشفافية للقارئ بحيث ينصهر الداخلي والخارجي، الذاتي والموضوعي.

لوحة للفنان ريتشارد داد 1817-1866

وهي تساعد على تجاوز الترتيب الزمني للحدث، دون أن يؤثر ذلك على تدفقه أو يترك أي ثغرات أو فجوات؛ فالرسائل في آلام فرتر تحمل تواريخ أيام متباعدة ما يعني أن أحداثًا وأيامًا سقطت من التدوين أو أُعيد تمثلها من الذات الساردة دون أن يخل ذلك بمسار السرد؛ الذي يتدفق إلى أن نصل لرسالة الانتحار الأخيرة والتي تُوجّه إلى شارلوت بلغة حميمة رغم قسوتها. وهي تُشكِّل خلاصة متوقعة لهذه الروح المرتجفة تحت الضلوع.

وقد يتفنن التخييل الروائي في استخدام الرسائل بتحويلها من التواصل المباشر إلى الانفتاح على تعدديّة المرسل إليهم. من الذاتي إلى الموضوعي وتصبح الشخصيّات نقطة تحوّل وقطيعة مع نمط سائد ثقافي أو سياسي أو اجتماعي. وعلى الرغم من تعدد الشخصيات في رواية “بريد الليل“للروائية اللبنانية هدى بركات فهي خاضعة لوجهة نظر الذات المرسلة، أما ضمير المُخاطب الذي بوجوده يتحقق السرد فإنه لا يحضر فعلًا وملفوظًا فالشخصيات مجرد وسائط لما يريد المرسل قوله أو التعبير عنه. والضحية تكتب لتصفية الحساب مع ذات مخاطبة تدين من خلالها نظامًا بأكمله. إنَّ الحدث هنا هو ماضٍ يتم التأمل فيه فيساعد على فهم تحولاته. فالشخصيات جميعها ضحايا وهم إشارات ودلالات كـ(المثلي) الذي هو إدانة لنظام ثقافي و(المومس) كإدانة للنظام الاجتماعي و(رجل المخابرات) الذي هو ضحية لنظام سياسي، وتتجاوز الرسالة وظيفتها الوجدانيّة إلى وظيفة ثقافية تشرِّح الثقافة التي تحدَّر منها هؤلاء وتخرج عن ثنائية /جلاّد / ضحيّة. فبناء الشخصيّة مركّب بحيث يُمكننا رؤيتها كشخصيات قامت بجرائم وقدمت تنازلات على حساب إنسانيتها فخسرتها؛ لكن وفي ضوء الرسائل نتمكن من فهم دوافعها العميقة، وردود أفعالها، وسلوكياتها ونتمكن من تحديد الهويات المختلفة التي آلت إليها؛ فهم ليسوا أبطالًا بل مجرد إشارة ثقافية ولهم وظائف يؤدونها داخل النص ومن هنا تأتي ضرورتها لفهم جوانيّة الشخوص ومُكابداتهم وقراءاتهم لواقعهم ضمن محدودية وَعيهم وقهر ظروفهم؛ لرصد البعد الاجتماعي والنفسي للشخصيّات وتفهُّم تناقضاتها المعقدة.

وقد يتفنن التخييل الروائي في استخدام الرسائل بتحويلها من التواصل المباشر إلى الانفتاح على تعدديّة المرسل إليهم

وهي تدفع الحدث للنمو كمُحرِّض لكل شخصّية. فرسالة الصحفي تدفع امرأة إلى الكتابة لرجل تنتظره. وتدفع الأخيرة أحد الموجودين في المطار ليكتب لوالدته مسترجعًا ذكريات الطّفولة والشّباب وعنف والده وآثار هذا العنف في أعماقه والتي دفعته لقتل امرأة أجنبيّة مسنّة عطفت عليه في إحدى الدّول التي استقبلت اللّاجئين بعد اندلاع الحربِ في بلده؛ وتُحرِّض رسالته التي سقطت بين مقاعد الطائرة امرأة في المطار؛ فتكتب بدورها إلى أخيها تصف له ظلم أمها وكيف وجدت نفسها ضحيّة مجتمع لا يرحم، وظروف اقتصاديّة سيّئة أجبرتها على الأعمال المُهينة والدّعارة. بينما تشجع الرّسالة الأخيرة شابًا “مثليًّا”فيوجه عتابًا رقيقًا، يَشرحُ فيه خصوصيّته الجسديّة والنّفسيّة التي سببت نبذه.

ويمكن أن يعتمد السرد بشكل كُليّ على الرسالة، كما في رواية بريد الليل وآلام فرتر. ورواية “رسالة إلى الجنرال فرانكو“للكاتب الإسباني فرنارندو آرّابال، أو بشكل جُزئي ّكما في رواية الهوية لميلان كونديرا المهجوس في أغلب أعماله بقضية الهوية وأسئلتها؛ بحيث تبدأ أزمة الهوية مع ظهور الرسائل في حياة الزوجين شانتال وجان مارك. وهما يقضيان العطلة في فندق بمدينة صغيرة على شاطئ النورماندي، وبعد أن تهمس الزوجة بأن “الرجال لم يعودوا يلتفتون نحوها”يقوم الزوج وبشكل سريّ بإيداع الرسائل في صندوق بريدها؛ لاعبًا دور العاشق المجهول.

 وتساعد الرسائل على مراقبة تحولات الشخصية وتغيراتها برغم أنها ترفض الاعتراف بأن يحدد الآخرون هويتها؛ وتكشف تقلباتها من خلال امتثالها لرسائل الشخص المجهول. فما هي هويتنا الحقيقية! وما المكتسب من المجتمع أو بتأثير نظرة الآخرين. وهل أفعالنا وأفكارنا نابعة من أعماقنا أم مُحدّدة من قبل الآخر. ويبدأ التحول لحظة اكتشافها أنّ المرسل المجهول هو زوجها. وهنا تبدأ مرحلة الشك، وتساعد هذه التقنية على مراقبة التحولات في مفهوم الهوية والتي تتوضح أكثر مع كل رسالة جديدة.

وقد يكون تعدد الرسائل في الرواية طريقة لتحقيق العدالة بين الشخصيات المتعارضة والمتناقضة كرواية “أربطة” للكاتب الإيطالي دومينيكو ستارنونه، ومحورها الصراع مع الروتين، بحيث تتناول كلًا من الزوجة ثم الزوج والأبناء على عدة فصول ليعرض كل طرف وجهة نظره من خلالها؛ فتساعد على تطور حركة السرد لكشف ما يستعصي على الوصف أو ما يجهله الراوي العليم الذي لا يملك ثراء ضمير المتكلم ومقدرته. وتُعطِّل قدرة القارئ على الحكم الذي يعوق الشعور بالآخر. وتدفع به لنظرة إنسانية أكثر رحابة وسعة، يساعد في ذلك ضمير المتكلم ومرونته حد وصفه من قبل عبد الحميد مرتاض: بالضمير الحلزونيّ الذي “يتجه نحو الحاضر أو الماضي القريب، وفي كل الاتجاهات.

في رواية «الهوية» لميلان كونديرا تهمس الزوجة بأن “الرجال لم يعودوا يلتفتون نحوها”، يقوم الزوج وبشكل سريّ بإيداع الرسائل في صندوق بريدها؛ لاعبًا دور العاشق المجهول

وقد تكون الرسالة تطورًا فنيًّا عن السيرة والمحكي الذاتي فنجدها مبثوثة بشكل متفرق كما في رواية “ألزهايمر”“للكاتب غازي القصيبي وهي رسائل متبادلة بين يعقوب العريان، وبين مرسل إليه (زوجته) والتي توثق بداية المرض، وتطوراته والتحولات التي تطرأ على وظائف الذاكرة، وتساعد على تضمين معلومات طبية وعلمية ووصف التغيرات المفاجئة والطارئة على الذاكرة والنسيان. كما تستوعب ذكريات طفولته ومراهقته وأحلامه البعيدة التي التمعت في ليل ذاكرته وهي تُقارب الأفول فندخل أدب السيرة الذاتية من بوابة الرسالة.

لكن ماذا لو كانت الأخيرة حيلة ذكية الإنقاذ السرد. فسرد رواية يحتاج إلى فنيّات كثيرة؛ وهنا تستدعى الرسالة لنجدة السرد وبرأي البعض فهي تساعد حين تخفق عوامل التشويق والحبكة وتمثل رواية “عالم صوفي” للكاتب الفرنسي جوستان غاردير، نموذجًا دقيقًا.

لوحة للفنان بيير بونارد 1867-1947

إنَّ غاردير وهو أستاذٌ ومتخصصٌ في الفلسفة عثر في الرسالة على شكل مناسب لتقديم تاريخ الفلسفة الغربية، وللإفلات من مأزق السرد عبر تقنية الرسائل الملأى بالأحاجي الذهنية والعقلية، التي تدفع السرد وتؤدي لنمو الحدث. وتقوم بدمج المعرفي بالذاتي وإشراك القارئ في الاستعارات والتمثيلات الموجّهة إلى صوفي والتي قد تكون حيلة أسلوبية متخيّلة. وبخلاف المتعارف عليه فإن المرسل هنا مجهول بينما المرسل إليه وهو صوفي معروف لدينا.

 إنَّ الرسالة قد تستخدم أيضًا كوثيقةٍ تاريخية أو شهادة على مرحلة أو حقبة زمنية، وتتكشف فيها أسرار هذه الحقبة وتمثل رواية “علاقات خطرة”وهي رواية رسائلية للكاتب لا بيير شوديرلو دولاكلو. وبرغم تنصل الناشر منها وادعائه عدم صدقيتها فقد كشفت علاقات خطرة تحت غطاء المراسلات الذاتية عن الحياة المتخفية والعميقة للطبقة المترفة في فرنسا.فالرواية كلها عبارة عن رسائل بين أبطال القصة بحيث تتضمن الأحداث ضمن الرسالة، وهي هنا تمويهٌ ذكي ظاهرها يوحي بعلاقات عاطفية لكن الجانب السياسي واضح فيها. وقد تضمنت نمط الحياة والعادات والمكائد التي تُحاك في أروقة القصور.

تُشكِّل الرسالة رغبة في فهم الذات، وهذا الفهم يمر عبر الآخر /المرسل إليه/ وفي كل الأحوال هي نظرة رومانسية وثقة-دون أي ضمانة-بأن نكون مفهومين؛ ومن المفارقات أن قراءة رسائل سارتر وبوفوار الحميمة تلقي الضوء على مذهبهما الوجودي أكثر مما يفعل كتاب “الوجود والعدم”

 ولعل ولع الرواية بهذا الشكل الكتابي واستدماجه في بنيتها متأتٍ من ثرائه وتنوعه وقدرته على صهر الذاتي والموضوعي في روح واحدة. إنها من بين أغلب أساليب الخطاب الأدبي الأقل قابلية للتحريف، وهي حساس دقيق للكذب وإن كذبت الكلمات فالرسالة لا تفعل.

قد تكون الرسالة تطورًا فنيًّا عن السيرة والمحكي الذاتي فنجدها مبثوثة بشكل متفرق كما في رواية “ألزهايمر”للكاتب غازي القصيبي

يورد ايكو في كتابه “ست نزهات في غابة السرد” قصة لها دلالة وهي تروي حكاية عبد هنديّ أرسله سيده بسلة مليئة بالتين، وعندما اطلع الشخص الذي وُجِّهت السلة إليه على الرسالة، اتهم العبد بسرقة التين. إلا أنَّ العبد أنكر ذلك لاعنًا الورقة متّهمًا إيّاها بشهادةِ الزور. وحدث أن أرسله سيده مرة أخرى إلى نفس الشخص. ومعه نفس الحمولة، مرفقة برسالة تبين العدد الحقيقي لحبات التين فأكلَ الجزء الأكبر منها وهذه المرّة أخفى الرسالة تحت حجر كي لا تكون شاهدًا عليه، وعندما وصل إلى المكان المقصود، اتهمه الأخير من جديد بأكل نصف الحمولة واعترف هذه المرّة بفعلته مُعجبًا “بألوهيّةِ الورقة“.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 60

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى