حسن كامي.. مملكة الاسرار

بروفيل:

عن أي الأشياء أو الذكريات، عندما سرحت أتأمل صورتي في مرآة ملعقة البلاتينيوم التي أهدانا أياها الراحل حسن كامي الذي شاركته في العمل المسرحي دلع الهوانم في العام 1990 /1991، للمخرج سيد راضي ، والذي كان قد دعى فريق العامل: نور الشريف وبوسي ونجاح الموجي وحسن حسني ومحمد رضا وهالة فاخر وفادية عكاشة ومجدي إمام وكل الكاستينج المساعد محمد رشدي وفوزي وفنيين بل وموسيقين آخريين ، وكنت من بينهم.

  هل كنت أستعيد ما مضي من ذكريات ، أم عن تلك الغصة والحسرة والعزلة التي يتعرض لها الفنان في مصر بعد أن يعتزل الساحة الفنية بإرادته ، أو رغما عنه لشعورة بعدم الجدوى أو إحساسه بالوحدة بعد كل ماضيه من العطاء المتميز في أكثر من مسار فني.

كانت الارجوحة.، من مخمل وحرير تتأرجح عليها النجمة سليلة المجد التركي أو الشركسي «بوسي» والتي كانت تكن للراحل كل تقدير وتطلب منه أن يجهر بغناه الأوبرالي وطبقاته الصداحة المدوية كتينور حتى أعلى إستيدج مسرح الهوسابير وقت بروفات العرض” دلع الهوانم“.

في  سهرتنا في فيلته بالمريوطية ، أعد لنا فيها الشواء وأهدى كلا منا ملعقتين من البلوتونيوم ، واحدة كبيرة واخرى للشاي. وتحدثت فيها بوسي مع  سيد راضي ونجاح الموجي وحسن كامي ، عن تفاصيل تتناول نص “شبح الأوبرا” كأول عرض وتمصير مصري ينتجه كامي وراضي على مسرح الاوبرا مع العام 92، بعيدا عن غيرة دفينة وهشاشة تصطنعها هالة فاخر في وجود النجمة الراقية بوسي والتي تشاركها البطولة فعلا ينتهي الخلاف، عن الاجر الشهري والبوسترات ومساحات الدور في عرض “دلع الهوانم” الذي صار ايقونة للتنافس المرح والفاتن في العام 91، كامي الذي كان يحضر بعربته المرسيدس قبل موعد العرض بساعة في التاسعة بالضبط ليلج الكواليس في خفة وثقل، خفة التينور لذي عاد لتوه من باريس ليتم الإتفاق مع “كلود رطل” السبرانو والمخرج أيضا لإتمام الإتفاق على خمسة عشر يومًا لعرض “أوبرا عايدة” على مسرح دار الاوبرا المصرية في مجدها التليد فترة الفنان فاروق حسني.

كان حسن كامي يبهرنا بأداء وسلوكيات متفردة ولغة خاصة في الحديث مقدما مفردته الثابتة والتي تعبر عن رقي وثقافة عتيدة

كان حسن كامي يبهرنا بأداء وسلوكيات متفردة ولغة خاصة في الحديث مقدما مفردته الثابتة والتي تعبر عن رقي وثقافة عتيدة ارستقراطية فخمة.  عرضت عليه نصًا قصصيًا لي كان السبب في تعارف أقرب، وكأن القدر يرتب أحاديث أخرى تقربني أكثر من الرجل الذي سمعته يهمس في أذن المخرج سيد راضي في كواليس “بروفة جنرال” لمسرحية ” دلع الهوانم  ويقول له بحدة: أنت تعلم ياسيد بيه معزتي لنجوى ولذلك دائما ما تصاحبني في كل أعمالي.

ونجوى هي زوجة الفارس كامي الذي ترجل كثيرا  وصال وجال على مدار سنوات عشر ليقدم عشرات الأفلام التي راكمت الكثير من خصوصية وحنكة الاداء التمثيلي الثقيل ، بخفة رجل لف ودار واخترق كل الثقافات من خلال شركته التي لم تزل قائمة ولكن بلا نشاط في عنوانها الكائن بشارع شريف، معقل البرجوازية الكبرى في القاهرة التي  وعاها حسن كامي وفهمها ،فاختزل حسها وتناقضاتها وولعها بالجديد الفريد في الفن.

كان موهوبًا  فيما يخص تواصل الفنون كلها مسرح وسينما وموسيقى واوبرا وترويج وحتى دراما مرئية تتحرك أشباحها بجدية. وتفنن على خشبات مسارح مصر في القاهرة والعديد من مسارح العالم حتى “برودواى ، الذي قدم علية أوبرا عايدة في العام 1988.

وكان الراحل يجيد التحدث مع رموز ومسئولين ثقافيين في العالم بما يعود على بلده وثقافته بأشكال ثمينة من فنون تسهم وتروج للبلد في أشد الفترات السياسية وعورة قي مزانق وهوات الإرهاب في بدء العقد الثاني فترة حسني مبارك . مع تجلي آخر مشاهد مقاومة القبح والإرهاب بالفن الراقي ، كان الرجل يصدح ، حتى انه لم ينس أن ينفحنى أربع دعوات لحضور اوبرا عايدة في عرض ساحر وفرت له كل عناصر النجاح والفتون والبهرجة ذوات المضامين العريقة  ليرى المشاهد في مصر وكافة أرجاء العالم هذا العمل البديع.

 رجل متعدد المواهب وزوايا النظر بمعرفة عميقة بمسار الفن والمغزى الجمالي منه

في يوم العرض الخامس والثلاثين  جاء كامي على عجل لعتبات مسرح “الهوسابير” وأخبرني بشبه بطولة في فيلم “سمع هس” مع ليلى علوى وشريف عرفه، قدم أشكالا من التجريب والفانتازيا التي تبوح ولا تصرح ، بتناقضات جمة فيما يخص الإعلامي والسياسي والإجتماعي الفني والإبداعي والتى ساهمت في بروز تيار سينمائي فانتازي لم تمهله صناعة السينما  لكي يتبلور. انقضت سينما المقاولات لهدم الجيد الهادف وطمسه ، والإعلاء من قيمة التافه بموضوعات.

في”سمع هس” كان الرجل متعدد المواهب وزوايا النظر بمعرفة عميقة بمسار الفن والمغزى الجمالي منه. كيف لا وهو صاحب منمنمات تشكيلية حتى في ديكورات شركته وملابسه وإختياره لألوان مكتبته الكبيرة متعددة المعارف بلغات شتى”بون فوياج” القابعة في شارع ثروت والتي لا نعلم ماهو مصيرها بعد رحيله، بعد استغاثات لوزارتها لشرائها.

عندما أطمئن كامي لتركيبتي الإنسانية ، وبدافع من الجميل الراحل المخرج “سيد راضي” كنا قد صرنا أصدقاء. وصار يخصني بجديده فور التعاقد على هذا العمل أو ذاك.

ذات مرة اتصل بي وقت التصوير ليعطيني صورًا فوتوغرافية من فيلم “سمع هس” تجمعه ببطلته ليلى علوي وممدوح عبد العليم. وفتح الالبوم لتسقط الصور ، وارى في تحديقة عابرة لقطة لسيدة مدهشة فائقة الجمال طاغية المظهر . أسأله لمن هذه الصور فيقول بإستحياء وهو يقبض علي يدي ويقول: نجوى. وأستشعر من رده أنه حريص على الإحتفاظ بخصوصياته في حياة رومانتيكية قويمة تجمعه ، بحبه وعشقه الذي لم ينزو ولم يفتر للزوجة ومن قبلها الصديقة والعاشقة والحبيبة التي رحلت قبل وفاته بشهور قليلة لتتجلى التفاصيل الشخصية للفنان حسن كامي،  رباطة جأش تطول وتتمدد وتتعمق وتربط بين الرجل وزوجته التي تشاركه نفس هواياته وطرائق عمله وعشقه للفنون والسفر، بلمعة وبريق عينهما سويا في كل المطارح ، وهي الضاحكة والحاضرة بخفة هانم تنتمي  لزمن مخملي ماض.

حسن كامي المختلف الذي توفي في الرابع عشر من ديسمبر العام 2018 حاملًا معه مئات الأسرار من كواليس الذاتي والشخصي والفني وحتي الإجتماعي وتحديدًا في إطاره الذاتي وهو المولود في العام 1936، وبين المولد والوفاة  كان حب الناس والفن وعشق الحياة مذهبه وطريقه للتعامل مع الناس في خطاب مؤدب ومثير للإعجاب.

ومما يثير التأمل فيما يخص مرايا الراحل المتعددة الظلال لحظات الحزن التي نجح كثيرا في إخفائها،  وكان منها رحيل ابنه البكر الذي فرم حياته فجعل منها غرفًا ثلاثة تفصل بينها ستائر كثيفة، فالفن في جانب أو غرفة ، والعمل في غرفة أخرى، وغرفة ثالثة تخصه وحده مع الذكريات المؤلمة. ولكن واجهة كل ذلك إصراره على  المودة وحب الجميع.

قدم كامي عشرات الأعمال الدرامية ما بين السينمائية والمسرحية والتليفزيونية والعشرات من الأعمال الأوبرالية

قدم كامي عشرات الأعمال الدرامية ما بين السينمائية والمسرحية والتليفزيونية، كان أبرزها افلام “سمع هس” ومسلسلات بوابة الحلواني و”أنا وأنت وبابا في المشمش ،ورأفت الهجان ليحيى العلمي و”الخواجة عبد القادر”  للكاتب عبد الرحيم كمال. غير مشاركته في بطولة العشرات من الاعمال الاوبرالية وتولى رئاسة فرقة الاوبرا ومستشارونائبا فني لرئيس دار الاوبرافي العام 90.

كان يتنقل بعربته ما بين الإستديوهات وخشبات المسرح وإداراته لفرقة أوبرا القاهرة، ولا ينتهي  إلا بعد منتصف الليل، وهكذا ترك لنا  عشرات الدرر واللآليء والكثير من الحب لدى كل من عرفوه.

**المصدر: مجلة الجسرة الثقافية. العدد: 62

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى