الفن.. شفاء الخائفين

كل الكائنات تخاف، الخوف من علامات الحياة، هو حالة تنتاب الكائن الحي إذا شعر بخطر يهدد وجوده، حالما يتعرض الإنسان لأي خطر تنتابه عدة تغيرات فيسيولوجية ، فتزداد ضربات قلبه ويتسارع تدفق الدم في عروقه وتلهث أنفاسه بسبب هرمون الأدرينالين Adrenaline) ) الذي تفرزه الغدة الكظرية (Adrenal gland) فتتضاعف قواه وقدراته البدنية دفاعًا عن وجوده إما بالمواجهة أو الفرار من مصدر الخطر.

عبَّر الإنسان عن مخاوفه بصور شتى كان أولها الفن التشكيلي، قبل أن يتعرف على لغة الكلام عبَّر عن مشاعره بالصياح والرسم

تعددت أسبابه واختلفت مصادره طوال مسيرة الجنس البشرى، وعبَّر الإنسان عن مخاوفه بصور شتى كان أولها الفن التشكيلى، قبل أن يتعرف على لغة الكلام عبر عن مشاعره بالصياح والرسم، فنبش الأوائل على جدران الكهوف وحفروا فيها أشكالًا معبرة عن مخاوفهم في عصور ما قبل التاريخ، وبقيت تلك الرسوم خفية مجهولة آلاف السنين حتى اكتشفت لأول مرة في القرن التاسع عشر، تحديدًا عام 1879 بينما كان رجل يتجول مع ابنته في منطقة التمبرا بإسبانيا، أثار فضوله كهف في سقفه رسوم ملونة لثيران تجري وأشكال بشرية بخطوط أولية وعلامات هندسية وأصابع كفوف ممدودة، وأمكن تمييز وتسجيل 150 رسمًا عرفت برسوم التمبرا، كانت النموذج الأول لرسوم أهل الكهف، ثم ظهر نموذج ثان في كهوف لاسكو بفرنسا عام 1940 على سقفه وجدرانه رسوم لقطعان من الماشية تجري وحيوانات برية تطاردها، كما ظهرت نقوش هندسية محفورة ربما بخدش الأظفار أو باستخدام آلة حادة قد تكون قطعة حجر استخدمت كإزميل للحفر على الجدران.

ثم توالت اكتشافات الباحثين عما خلفه الإنسان الأول من فنون الكهف في بقاع مختلفة من الأرض، جرى تصنيفها وفقًا لتتابعها الزمني إلى أربع مجموعات يجمع بينها الموضوع الواحد، فجميعها مشاهد من الحياة اليومية بين الضواري والحيوانات البرية التي تهدد الإنسان الخائف من كل ما يحيط به من ظواهر طبيعية لم يكن قد توصل إلى فهم أسبابها الحقيقية.

وتجمع التقنية البدائية بين رسوم الكهوف فرسمت كلها بالأصابع والكفوف وأعواد عصي رفيعة وَبُخَّت الألوان بالفم، وهي ثلاثة ألوان فقط: الأحمر والأسود والأصفر، وجميعها صبغات مستخلصة من الأكاسيد الحجرية المتوافرة في البيئة ودماء الحيوانات، وللنقش على الجدران استخدم الإنسان أظفاره للحفر على الصخور كما استخدم قطعًا صلبة من الحجر للحفر كإزميل النحات.

الرسوم الأولى مشاهد من الحياة اليومية بين الضواري والحيوانات التي تهدد الإنسان الخائف من كل ما يحيط به من ظواهر

يهتم علماء الأنثروبولوجيا بالدراسات الميدانية لفنون الكهف لكشفها عن عادات الإنسان البدائي وأفكاره ومعتقداته وعواطفه، والطريقة التي صور بها الحياة اليومية والواقع الذي عاش فيه، كما أنها تعبر عن مراحل أولية من تطور الفكر البشري وتدل على المهارات التي أظهرها البشر في عصور ما قبل التاريخ.

والسؤال الآن عن جدوى التعبير الفني عن الخوف وكيف يؤثر في الإنسان؟

هذا مجال علماء الصحة النفسية والبيولوجي الذين توصلوا إلى نتائج تؤكد فاعلية التعبير عن مشاعر الخوف بأساليب وصياغات فنية متعددة وجدوى ذلك كنشاط حيوي، فالثابت أن لهذا الفعل (التعبير عن الخوف) تأثيرًا مباشرًا في تهدئة نفوس الخائفين وإيقاظ أذهانهم، لأن جهل الإنسان بطبيعة ما يتعرض له من مخاطر هو السبب الأول لحالة الهلع والتوتر التي تنتابه، ومع تزايد معدلات الأدرينالين في دمه يدخل في حالة محمومة تشمل كل أطرافه، وتتوقف مراكز التفكير المنطقي لديه بينما تستيقظ الطاقات الكامنة في عضلاته ليندفع مقدمًا على فعل غير مألوف لمواجهة مصدر الخطر، هذا التوتر العنيف في العضلات يقل تدريجيًّا بحركات القفز في الهواء والدوران أو الرقص، كذلك العمل اليدوي الذي يتطلبه الرسم على الجدران أو النبش والحفر فيها، يمتص قدرًا كبيرًا من حالة التوتر العضلي والانقباض عند الخائفين، والنتيجة المباشرة لهذا النشاط الحركي استعادة التوازن لعمل الأجهزة الحيوية بصورة طبيعية.

كأن التعبير الفني أعاد توجيه مسارات التوتر وخفف من حدتها ولولاه لهلك الإنسان إذا ما توقف قلبه أو انقبضت أجهزته التنفسية بسبب تزايد دفقات الأدرينالين.

من جانب آخر فإن حاجة الإنسان لتصوير مخاوفه في أشكال محددة يرسمها، تنبه مراكز التفكير والتخيل لديه في المخ، تلك التي توقفت مؤقتًا عن العمل في لحظات الخوف والتوتر الشديد، وبذلك فإنه يكون قد أقدم على أول خطوة

لتحديد وتجسيم مصادر خوفه، وبالتالي يستحث قواه الذهنية للتعرف على طبيعة هذه المخاطر ويفكر في كيفية التعامل معها لتأمين نفسه، ربما تكون رسوم الكهوف هي أول ما علَّم الإنسان حرفة الصيد وترويض الحيوانات.

 الجنة على جدران الخوف:

الخوف من الفناء دفع المصري للبحث عن الخلود، وذلك نموذج آخر لدور الفن كترياق للخوف في مرحلة تاريخية أكثر تطورًا من العصور البدائية بلغ فيها التنظيم الاجتماعي درجة عالية، كما بلغ فيها الفكر البشري آفاقًا أبعد.

خاف المصري القديم من الفناء عندما لاحظ التغيرات التي تطرأ على كل الموجودات حوله في البيئة، كل الكائنات الحية وغيرها حتى الشمس مآلها الغروب، فأي معنى لوجوده؟ هل حياته وكل ما حوله مجرد حبات حصى تذروها رياح الموت؟

حاجة الإنسان لتصوير مخاوفه في أشكال يرسمها تنبه مراكز التفكير والتخيل لديه التي توقفت مؤقتًا عن العمل في لحظات التوتر الشديد

في رحلة البحث عن معنى للحياة ينفي عنها العبثية، توصل الإنسان إلى بناء قيمي أخلاقي ينظم التعامل بين أفراد المجتمع بصورة تكفل استمرار الحياة وتواصلها بأمان، واجتهد كهنة مدرستي أون ومنف سعيًا لوضع سردية تفسر نشأة الوجود المحسوس. وانطلقوا من ملاحظتهم أن الفناء يدبُّ في أحيائه وجماده، مهما طالت أو قصرت مدة بقائها، وبناء عليه فإن الوجود لا يمكن أن يكون هو هذا الوجودَ الفانيَ المتغير فقط، وإنما الوجودُ وجودان أو عالَمان، عالمنا هذا المادِّي المحسوس، وهو زائل لا بقاء له، وعالم آخر تُشكِّل مواصفاتُه والإيمانُ به وبوجوده جوهر الديانة المصرية القديمة. ومع كل التطورات الفكرية في المعتقدات المصرية القديمة بقي الإيمان بأن الوجود قائم على عالمين، الأول العالم المحسوس المؤقت والثاني عالم الخلود والأبدية الذي سينتقل إليه الجميع بعد موتهم ورحيلهم من العالم المحسوس إلى عالم الخلود. وفقا لهذه الرؤية، فالموت ليس نهاية للوجود؛ لأن الحياة لا تمضي في خط مستقيم، بل دائرة متصلة بين الميلاد والموت ثم البعث من جديد. والأرجح أن فكرة دورة الحياة وليدة لخبرة تعامل الفلاح القديم مع الواقع المادي وملاحظته دورة النهار والليل ودورة فيضان النيل وتغير الفصول كل عام، وملاحظته لعمليات الإنبات والإثمار في البذور؛ فالحبَّةُ الواحدة التي يبذرها تنبت وتخضرّ ثم تثمر مزيدًا من الحبوب، فتتكرر معجزةُ الحياة وتتجدد.

الموت إذن من حقائق الوجود، ومحطة في رحلة الحياة ليس على الإنسان أن يجزع منها، بل يتقبلها ويتأهب لها. بهذا يكون الإبداع الفكري البشري قد صاغ تصورًا عقلانيًّا منضبطًا لأفكار الوجود والموت والحياة، ليأتي بعد ذلك دور الإبداع الفني الذي يضع الإطار الجمالي لهذه الأفكار ويعمل على انتشارها وتثبيتها بين الناس.

يبدأ الإبداع الفني في معالجة فكرة البعث والخلود بتشييد المقابر وتأمينهـا مـن المخاطـر التـي تهـدد موميـاء المتـوفى، وتزيينها بالمناظر والنصوص التي تتولى حماية جثمانه وإرشاده في العالم الآخر. الخوف من الفناء كان حافزًا لتطور فن العمارة لبناء المقابر بصورة تؤمن جثمان المتوفى ومتعلقاته فتحميه من نهش الضواري أو نبش اللصوص، كما تغطي الرسوم الملونة سقف وجدران المقبرة بصور من تفاصيل الحياة اليومية كما عاشها المتوفى، وهي بزخرفها وجمالها تؤنسه وتنزع عنه وحشة الوحدة، وتجلب له الفرح والغناء لتسري عنه وتخفف من قلقه قبل أن تأتي ساعة حسابه على أفعاله أمام محكمة العدل الإلهية.

الخوف من الفناء دفع المصري للبحث عن الخلود، وذلك نموذج آخر لدور الفن كترياق للخوف في مرحلة تاريخية بلغ فيها التنظيم الاجتماعي درجة عالية

حفلت جدران المقابر المصرية برسوم تطمئن المتوفى، تنزع عنه الخوف وتبعث فيه البهجة وتعده بنيل ثواب عمله الطيب. ووفقًا للمعتقدات المصرية القديمة تنفصل روح الإنسان عن جسده ساعة الوفاة وتبقى هائمة كالطائر حتى يحين موعد البعث الجديد فتعود لتحل فيه مرة أخرى، وخوفًا من أن تضل الروح طريقها أو تخطئ الطريق إلى صاحبها وضعت صورة مرسومة لوجه المتوفى مطابقة لملامحه، كأنها بطاقة تعريف الهوية، هذه الرسوم أطلق عليها الأثريون اسم (بورتريهات الفيوم) حيث اكتشفت لأول مرة في مقابر الفيوم. وفي مرحلة تاريخية لاحقة فإن الخوف من السحر الكامن في الصور تحول إلى تحريم لفن التصوير، امتد من اليهودية إلى المسيحيين إلى أن ظهرت حاجة المؤمن المسيحي إلى وسيط إلهي يبجله ويرافقه سرًّا ليحميه من اضطهاد الأباطرة الوثنيين، فكانت وجوه الفيوم هي أصل الأيقونات.

والأيقونة تصور شخصية واقعية أو مثالية تخيلية قادرة على الانتقال من مكان إلى آخر، لديها تأثير ديني وعقائدي شعبي، يعتمد عليها المؤمن كوسيلة للتواصل والتضرع إلى الخالق. وأشهر الأيقونات ما يظهر فيها السيد المسيح مرتديًا عباءة حمراء رمزًا للشهادة والتضحية، وأيقونة السيدة العذراء مريم.

الخوف والفن الشعبي:

تواصلت رحلة الإنسان مع مشاعر الخوف والتعبير عنها بصور تشكيلية عند مختلف الشعوب بشرائحها الاجتماعية والثقافية، ويحفل تراث الإنسانية الثقافي بكثير من صور الإبداع مبعثها الخوف، فلا يخلو تراث شعب من شعوب الأرض منها، إذ تتنوع مصادر الخوف بين المجتمعات بحسب جغرافية المكان والنشاط الرئيسي لسكانه، ففي المدن الساحلية يسود الشعور بالخوف من تقلبات البحر بين الصيادين والغواصين بحثًا عن اللؤلؤ، وللوقاية من هذا الخطر يزينون قواربهم بموتيفات وكتابات مرتجلة كتعاويذ أو عبارات مقتبسة من القرآن الكريم، تكتب بخط أنيق مع رسوم صغيرة للكف أو العين الحاسدة يخترقها سهم (الحارس الله) أو (بسم الله مجريها ومرساها) وفي التراث حكايات وأساطير تستخدم في التنشئة الاجتماعية تلفت انتباه الصغار إلى مخاطر المضي بعيدًا على الساحل حتى لا يخرج عليهم إنسان الماء المعروف عند سكان الخليج بالفارسية (أبو درياه) وهو كائن أسطوري شرير يتكون نصف بدنه العلوي من نصف رجل، بينما نصفه السفلي نصف سمكة ذات ذيل عريض، يعيش في الأعماق ويتسلل إلى مراكب الصيادين ليخطف أحدهم ويلتهمه.

وتتناول الحكايات الشعبية في الخليج مغامرات البحارة في مواجهة هذا الجني الضخم الذي يقابل أسطورة (عروسة البحر) الأنثى التي تغوي البشر وتفتنهم ليتبعوها إلى الأعماق كما يروي تراث شعوب البحر المتوسط.

حفلت جدران المقابر المصرية برسوم تطمئن المتوفى تنزع عنه الخوف وتبعث فيه البهجة وتعده بنيل ثواب عمله الطيب

أما الشعوب الزراعية فتشيع بينها المخاوف المتعلقة بخصوبة الأرض والبشر والخوف من العقم أو الغيرة والحسد والأرواح الشريرة ولهذه المخاوف عند الفنان الشعبي التلقائي معالجات متعددة الأشكال، مثل (عروسة القمح) المغزولة من سنابل خضراء للتفاؤل بحصاد وفير يجلب الخير و(عروسة الحسد) المصنوعة من ورق تغرز فيها الإبر وتحرق قرب الطفل المريض لطرد الأرواح الشريرة وإبطال تأثير العين الحاسدة التي سببت له المرض.

وتُزيَّن أبواب البيوت وواجهات المنازل برسوم وموتيفات زخرفية نباتية أو هندسية لطرد الأرواح الشريرة ووقاية أهل البيت من عين الحسود.

**المصدر: مجلة الجسرة الثقافية. العدد: 62

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى