«القسم».. و«خلف الخلف»

خلف الخلف”.. شاب ارتبط بثرى هذا الوطن وارتبط بالإبداع.. في البدء ارتمى في أحضان الفن التشكيلي وانحصر عالمه بين الظل والنور والألوان، ولكن أسلم القيادة للقلم وارتمى في أحضان الحرف والكلمة.. بدأ على استحياء ولأنه مرتبط بعوالم أكبر وأكثر عمقًا وتأثيرًا كان السرد.. لم يكن عالمه الأحياء القديمة ولا صراع الفرد مع البحر والدول وأسماك القرش بحثًا عن لقمة تسدّ الريق، ولا بحث عن حكايات الحب في الفرجان القديمة.. اكتشف أن هناك عوالم أخرى لم يرتم في أحضانها من أمة الضاد إلا عددٌ قليل، وخليجيًا غاصت إحداهن وبشكل في سريع في مضامينها.

وأنا أعيش مع أوراق روايته الجديدة (القسم) عادت بي الذكريات إلى طفولتنا البكر.. ونحن صامتون نبحلق في شاشة التلفزيون عبر قناة أرامكو.. وذلك المسلسل الشهير “بيري ميسون” ومن بعدها مسلسل “الهارب”، كبرنا قليلًا وزاد ارتباطنا بالحكايات التي تثيرنا.. بحثًا عن الحقيقة والعدالة، فكان للكاتب الفرنسي موريس لوبلان، وبطله أرسين لوبين، ولم ندرك أن التاريخ العربي كان سباقًا في هذا الإطار عبر الشعراء الصعاليك “تأبط شرًا، والسليك بن السلكة، والشنفرى، وغيرهم.

خلف الخلف

كان أرسين لوبين نموذجًا غربيًا أو صورة للشعراء الصعاليك فيما يقوم به، نموذج مختلف عما قدمه عبقري أدب الرعب “ادجار ألان بو” أو تلك الأعمال التي خلدت أشهر الكاتبات عبر كل العصور أجاثا كريستي أو حتى حكايات شرلوك هولمز أو حتى حلقات روكامبول، في العصر الحديث كان لحلقات “بيتر فالك” ذلك المحقق الشهير عبر قدرته على كشف كل مصائر الشخصيات..

من هنا فإن كاتبنا القطري قد وقع في أسر حكايته.. هنا لا يمكن تلخيص أحداث الرواية ذلك أن الكاتب بذكائه يعايش القارئ مع الأحداث.. وهنا تجسيد لعددٍ من الألغاز، هنا أيضًا الرعب مما تحمله الأيام، وهنا أصحاب عاهات وأمراض نفسية وصرع، وكآبة.. وهنا من يدفع الثمن لما جنت يداه.. هنا قصة الإنسان في رحلته المحفوفة بالمخاطر بين القوة والسيطرة والسقوط في هاوية الرغبات المجنونة..

عبر فارس وأمين وسزكلود، وقطر الندى وخديجة وعشرات الأسماء والألقاب يعيش القارئ.. هنا الخندريس وهنا الجبان الرعديد، وهنا الألعاب، وهنا “مزون” والعقم والجثث وأمواج البحر والغرق.. وهنا أيضًا النهاية.. حيث يدفع المجرم ثمن جريمته.. ليس هناك أبرياء، ذلك أن الثمن يدفعه كل من سولت له نفسه أن يرمي الحقيقة خلف ظهره.

عبر هذه الرواية يضع خلف الخلف أقدامه على أول الطريق في أن يقدم شكلًا آخر للرواية القطرية، يكون هو الرائد في طرح اسمه عبر الرواية البوليسية أو رواية الرعب أو رواية الكآبة أو رواية الخلاص..

ومنذ الإهداء نعي وندرك أن “خلف” قد وقع في أسر “أجاثا كريستي” وإننا في إطار الضعف الإنساني نبحث عن العدالة في أي إطار كان، الأهم أن يحصل المخطئ على جزائه من جراء أفعاله، وأن الفرد لابد وأن يدفع الثمن ذات يوم.

خلف الخلف.. يقول عبر كل نماذجه.. احذروا فليس بمقدور المجرم أو المخطئ أن ينجو بفعلته مما جنته يداه..

نصٌ يمسك بتلابيب القارئ وحكاية من حكايات صاغ أحداثها ورسم خيوط شخوصها، وجد ذاته في الحرف والكلمة، وسيكون عبر موهبته الخلاقة نموذجًا قطريًا في تقديم شكل روائي يثير ذهن القارئ ويعيشه بين الخوف مما كان ومما سيأتي وماذا سيكون مصائر النماذج التي كانت خلف أسباب وجودهم.

هذه الخطوة بلا شك تشكل إثراءً للرواية القطرية، وخروجًا عن النمط الإنشائي المدرسي..

من أعماله التشكيلية

هنا شخصيات تتشكل عبر الأحداث، ويملك الكاتب القدرة على خوض خلق الأحداث فيمسك بزمام القارئ، مع أن هذا النموذج الروائي نادر، وقد يرتبط في الرواية العربية بعددٍ من الكتاب نذكر منهم “صالح مرسي” مثلًا..

إن النموذج الذي طرحه خلف الخلف وأعني فارس هو نموذج متعدد الأوجه، وخير مثال ما أوردته الرسائل عبر الواتساب حول اتهام شخص بجريمة قتل زوجته، وتحت التعذيب اعترف بقتلها.. إلى هنا والموضوع مكرر ومعاد ولكن المفاجأة ظهور الزوجة بعد اعتراف الزوج بقتلها!

فارس نموذج للمحقق الفاسد في إطار من الفساد الجمعي.. هنا نماذج شاذة في مجتمع مغلف بكل ما هو فاسد.. والأهم أن المكان والزمان مبني على المجهول!

خلف الخلف.. هذه الخطوة تحسب لك وفي صالحك، ولا أريد أن أصادر حق القارئ والاستمتاع والخوف عندما يقلب صفحات روايتك غدًا أو بعد غد!

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 59

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى