«ريش».. ديوان الحياة السياسية والثقافية

هنا جلس نجيب محفوظ، هنا غنت أم كلثوم لأول مرة أمام جمهور، هنا كتب نجيب سرور “بروتوكلات حكماء صهيون» من هنا خرجت مظاهرة تقدمها يوسف إدريس تنديدًا باغتيال غسان كنفاني على يد الموساد الإسرائيلي، هنا ولدت فكرة بيان توفيق الحكيم الشهير للسادات احتجاجًا على تأخر المعركة ضد إسرائيل ورأي المثقفين في الموقف السياسي المصري والصراع مع العدو، هنا طبعت منشورات ثورة 1919 التي قادها سعد زغلول، من هنا انطلقت واحدة من أكبر حركات الجهاز السري للثورة، من هنا انطلق عريان يوسف طالب الطب في محاولة لاغتيال رئيس الوزراء آنذاك في الوقت يوسف وهبه الذي خرج على النداء الذي وجهه سعد زغلول بألا يقبل أي مصري هذا المنصب في ظل تعنت الإنجليز في المفاوضات، هنا كان الشاعر أمل دنقل يقف في قلب المقهى يقرأ قصيدته” الكعكة الحجرية” على مرتاديه كأنه في محفل للشعر.

هنا جلس ياسر عرفات، وأبو إياد، والشاذلي بن جديد. هنا مقر تجمع المراسلين الحربيين أثناء الحرب العالمية الأولى

هنا مقر تجمع العرب والسياسيين اللاجئين، هنا جلس ياسر عرفات وأبو إياد، والشاذلي بن جديد، هنا مقر تجمع المراسلين الحربيين أثناء الحرب العالمية الأولى، ثم مقرًا لتجمع المراسلين الصحفيين الأجانب، أشهرهم بريماكوف الذي صار وزيرًا لخارجية روسيا.

ميسون صقر مع حفيد مالك المقهى

هنا رواية عن أن صلاح جاهين هو الكاتب الحقيقي لسيناريو فيلم الكرنك وليس ممدوح الليثي بعد إصرار سعاد حسني لكنه رفض أن يوضع اسمه رغم إلحاحها، ورغم انتماء جاهين لعصر عبد الناصر لم يتبرأ من الفيلم، هنا صور تحاوطك تدل على أن مقهى ريش قد فتح أبوابه لجيل الأربعينات فظهر هذا الجيل ممثلًا في لويس عوض ورمسيس يونان ومحمد مندور ولطفي السيد بعد جيل العقاد وطه حسين، صور تقول أن المقهى شكل في خمسينيات القرن الماضي وفي الستينات مرحلة ذهبية بتحوله من مجرد مكان للمتعة والتسلية إلى زوايا وأركان لمنتديات ثقافية متنوعة.

ما هو مقهى ريش؟ ما الذي يعنيه بالضبط حتى تكتب عنه الشاعرة والتشكيلية ميسون صقر كتابًا تجاوز الستمائة وخمسين صفحة من القطع الكبير؟ ولماذا اهتم المقهى بفكرة الصالونات الثقافية والفنية، ولماذا هذا الحضور الكثيف حوله من المثقفين، ولماذا هذه الصور التي تقول واحدة منها على جدرانه: هذه أنا، فتتحرك في التو والحال صورة أخرى مجاورة أو مقابلة لتقول: وهذه أنا أيضًا.

تجيب صقر بنفسها على الأسئلة في كتابها ” مقهى ريش، عين على مصر” لتقول: إنها أسئلة الهوية والخصوصية، لقد أوجد مقهى ريش لنفسه بهذه الأسئلة بصمة عميقة لن تنسى على الإطلاق في ذاكرة المقاهي.

ستحكي لك الصور المعلقة على الجدران الجزء الأكثر حضورًا من حكايات المقهى، صور كامل ومأمون الشناوي، صلاح أبو سيف، والريحاني، وغيرهم

ربما تعرف الكاتبة نفسها أن هذه ليس إجابة ضافية في مدينة يمكن أن تتعرف على جزء كبير من تاريخها بتاريخ المقاهي، وبها من المهمش والمنسي تحت ركام التاريخ وتغير الواقع ما لا يمكن أن تحتويه عدة كتب، فما هو السر في ريش، وما هي جاذبيته واستمرارها حتى الآن؟

تعاجلك الكاتبة بأن المكان قطعة حية لا تزال تومض في مسارب الذاكرة الشفهية، عنه وعن زمنه الذي تآكلت معظم صوره الواقعية، وأن الجاذبية ليست في المهمش والمهمل، ولا في التناقض الحاد بين المكتوب المخفي عن العين الذي يشبه اليوتوبيا التي نعرفها شفاهة، بين واقع لا يمكن الجزم بأنه يتداعى لكنه يفقد لمعته الحقيقية، وبين واقع آخر يحيط به ويبتلع جمالياته في قبح طاغٍ، لا يراعي أن ثمة ماضيًا أنتج كل هذا الجمال، وأنه ليس من الحكمة، بل ليس من الوعي بأبسط مقومات الحضارة أن نتركه يتآكل حتى يختفي.

وبهذا المنعطف فمقهى ريش هو قطعة حية من الماضي ومن الحنين إليه، بل يتجاوز ذلك إلى دحض أي افتراضية حول إمكانية أن يكون المقهى للهو والمتعة فقط، بل يتجاوز ذلك ليصبح مصدرًا مهمًا حول فهم أعمق لمراحل التاريخ السياسي والفني للمثقف داخل دوائره وأزماته، كذلك هو حفر في ذاكرة التاريخ الثقافية في لحظة قاربت على الزوال بمفاهيمها وتحيزها، لكنها تظل تاريخًا للوسط الثقافي في لحظة غير رسمية.

لم يترك الكتاب للأمانة شذرة لم يقتف أثرها بدءًا من هوى المالك الأول وغرامه بالمقهى، والصعوبات التي اكتنفت ميلاده، حيث بدأ نشاطه 1908، مدعمًا بالوثائق التي تكشف طبيعة وصعوبة التعامل مع جهات الإدارة والبوليس والقوانين، وتحول المقهى وتطوره من مقهى للجلوس إلى مسرح (غنائي ومسرحي) داعمًا لمفاهيم فنية حديثة.

حفرت ميسون صقر في ذاكرة التاريخ الثقافية في لحظة قاربت على الزوال بمفاهيمها وتحيزها

من المؤكد أن المقهى بوجوده الواقعي وتاريخه إنما تماهى في الأساس مع حداثة البيئة والمدينة التي نشأ فيها والتي أوجدها الخديوي إسماعيل، وطبيعة عصريتها وحداثتها، كما أن حفلات ريش الغنائية على سبيل المثال وعروضه المسرحية كانت علامة على انحياز مصري للفنون حيث تبارى فيه أشهر المغنيين والمسر حيين المصريين في ذلك الوقت وعلى رأسهم نجيب الريحاني، على حين كان الطابع الغربي هو سمت ما يقدم في جروبي على بعد أقدام منه.

لعل هذا يعني أن مقهى ريش هو مقهى ينتمي إلى الوجود البشري المصري في فترة تعددت فيها الهوية، بل يمثل هذا الوجود باختياراته الفنية والثقافية ملمحًا دالًا على مصريته العميقة.

لقد استقر في الوعي أن المقهى استطاع بطبيعته التي تؤمن بالتعددية والتجاور وتمازج الفنون- بحسب الكاتب الصحفي كامل زهيري- أن ينشئ تيارًا ثقافيًا يقوم على التكامل بين الفنون سواء الموسيقى أو التصوير أو الرسم أو النحت أو الأدب.

وهو ما يؤكده الروائي الكبير محمد البساطي بقوله في شهادته: حالة مقهى ريش بكل تنوعها وتموجها تؤكد إحدى السمات المهمة في وجدان المصريين، فمن الواضح في مصر أن الاهتمامات تتوارث بما فيها الأماكن، بل ذهب أبعد من ذلك ليقول إن هناك بعض الموروثات التي تصبح جزءًا من التقاليد والفولكلور، ومنها مقهى ريش.

جانب من ندوة وحفل توقيع الكتاب بمقهى ريش، من اليمن: ميسون صقر القاسمي، نبيل عبدالفتاح، محمد سليم شوشة، وجمال القصاص

ستحكي لك الصور المعلقة على الجدران الجزء الأكثر حضورًا من حكايات المقهى، صور كامل ومأمون الشناوي، صلاح أبوسيف وصلاح عيسى والريحاني وغيرهم، ستعرف أن نجيب محفوظ كان منتظمُا في الحضور طوال أكثر من سبعة عشر عامًا، لم يتأخر دقيقة واحدة عن موعد حضوره وانصرافه، لم يزد عدد فناجين القهوة التي يشربها والسجائر التي يشربها واحدة ولا نقصت واحدة حتى وصفه الكاتب الساخر محمد عفيفي بأنه “الرجل الساعة”.. ستحكي لك أن المكان ليس مجرد جماد لا يتزحزح، بل يشارك برواده في أحداث الزمن (الموقف من كامب ديفيد – مثالًا).

لكن الصورة ليست بيضاء على طول الخط، فرغم أن ريش حظى بما لم يحظ به مقهى آخر مقهى بالكتابة عنه، إلا أن نجيب سرور أصدر ديوانه “بروتوكولات حكماء ريش” الذي يسخر فيه من مثقفي السلطة في تلك الفترة، كما ترددت قصيدة أحمد فؤاد نجم” يعيش المثقف على مقهى ريش” التي انتقد فيها عزلة وتعالي المثقفين الجالسين طلبًا للراحة وإيثارًا للسلامة والتي لحنها وغناها الشيخ إمام.

ستعرف أن نجيب محفوظ كان منتظمُا في الحضور طوال أكثر من سبعة عشر عامًا، لم يتأخر دقيقة واحدة عن موعد حضوره وانصرافه

في تعليقه على الكتاب يرى الشاعر جمال القصاص أن “عين مقهى ريش” تتجول في القاهرة كأنها كاميرا غير مرئية تحركها أصابع الزمن في مشهدية بصرية خصبة تمتزح فيها سلاسة السرد والحكي بروح الفكرة المؤكدة بالصور والوثائق، مشيرًا إلى أن الكتاب يضمر في طياته ما يمكن تسميته بالحالة المزاجية المصرية أو الروح المصرية تلك التي تلبست المقهى منذ إقدام ميشيل بوليتيس اليوناني المغامر على إقامة المقهى، ليلحق بالمقهى كشكًا للموسيقى إلى جانب المسرح الذي استقطب نجوم الطرب والغناء في تلك الفترة، وليتحول إلى مركز جذب للفنانين والعاملين بالفن، وأدخلت فيه الحفلات الفنية اليومية التي مهدت الطريق لكبار مطربي وفناني القرن العشرين.

تعلق ميسون صقر في كتابها على ذلك بالقول أنه على الرغم من أن المسرح وكشك الموسيقى قد صارا من التاريخ، ورغم أن حديقته قد صارت بناية ضخمة، لكن التاريخ كان قد مس المكان ومنحه خصوصيته لينفتح المقهى على صفحات جديدة من تاريخ الحركة الثقافية والفنية والحراك الاجتماعي وحتى السياسي في مصر.

تنتهي ميسون صقر في كتابها الذي صدر عن دار نهضة مصر إلى أن المقهى بتاريخه انطلق من فكرة مفادها: أن ثمة حراكًا في المدينة تتحاور فيه المقاهي مع البشر، وأنه يعمل وفق ما تمليه عليه اللحظة والحدث والجوار، وأن المقاهي تختار زبائنها كما يختارونها، كشبكة معقدة من العلاقات أو كأنها الأواني المستطرقة التي تنهض أو تنحسر مع بعضها بعضًا في سياق معقد من التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفنية لا فاصل حادًا بينها.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 59

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى